منذُ فجرِ التَّاريخِ، أدرك الإنسانُ أنَّ الطبيعةَ، بعناصرِها الأربعةِ، ليست فقط صديقاً للبشريَّةِ، وإنَّما كانت أيضاً، في أحايينَ كثيرةٍ، عدوَّةً له، تسلبهُ حياتَه؛ فكانتْ علاقته بالماء مزدوجةً وخاضعةً لثنائيَّةِ الحياةِ والموت: فهذا العنصرُ السَّائلُ هو في الوقتِ نفسه مصدرُ حياةٍ وموت، حتَّى قال مؤرِّخُ الإغريقِ الأكبرُ هيرودوت: «مِصرُ هِبَةُ النِّيلِ»؛ ولكن من جانب آخرَ تسبَّبَ انهيارُ سدِّ مأرِبَ في خراب مملكة سبأ. في الحقبةِ المعاصرةِ، وبالتَّحديدِ في منطقتنا في حوض المتوسِّطِ، صارَ العنصرُ المائي، بالنسبةِ إلى سكَّان الضفة الجنوبيَّةِ عنصرَ خطر، يدفعهم لخوضِ لججهِ القاتلة حلمهم بملاذٍ أحسنَ في الضِّفَّةِ الشَّماليَّةِ، هرباً من الحروب الأهليَّةِ والمجاعة والفقر والطُّغيان؛ علماً أنَّ جزءاً كبيراً مما يقع في دول الجنوب تسبَّبت فيه كولونياليات الشَّمال بنهبها لثروات الأفارقة والآسيويِّينَ وبتنصيبها وكلاءَ على شعوب القارَّتينِ. وقد خلَّد الكثيرُ من شعراء العالمِ هذه المآسي البحريَّة من خلال ظاهرةٍ صارتْ تُعْرَفُ في الصحافةِ العالميَّةِ بأسماء عديدةٍ، لكنَّها تتَّخِذُ جميعُها وجهاً واحداً هو وجه الموت: الأكتافُ البَلِيلَةُ، قوارب الهجرة السِّرِّيَّة، مياهُ الهجرةِ السَّوداء، قوارب الموت. قبل الوجه القبيح لهذه الظاهرة ذات الأبعاد السياسية والاقتصاديَّة، يحضرُنا نموذجٌ ساطعٌ وإيجابيٌّ من خلال تمويل وتسيير الشاعرِ الشِّيليِّ بابلو نيرودا، في الـرابع من آب (أغسطس) 1939، سفينةً مِنْ ميناءِ Pauillac الفرنسي، لترحيلِ 2500 لاجئ إسباني بأمان نحو تشيلي. فهل من شعراء وكتَّاب ومفكِّرين عرب وغربيين يسيرون على خطى نيرودا بالدِّفاع عن حق الجنوبيين في اللجوء بأمان إلى حيثما شاؤوا، من خلال مواقفَ وضغوط على حكَّام الضفَّة الشماليَّة للمتوسِّط، وبتمويل قوافل وسفنٍ لإجلاء الهاربين من جحيم الفاقةِ والطُّغيان وتدخُّلِ القوى الاستعماريَّةِ. ملحوظة كلُّ النصوص العجميَّة من ترجمتنا
عمل للمصوّر التايواني بو تشي


1. رامي العاشق: في ملعب البحر
[فلسطين/سوريا]


أرى البحرَ...
ثُقباً
بلا وجه عاشقةٍ وانعكاسٍ
ولا خاصرة...
يمصّ النهايات وحلاً...
وموتاً...
ولا يعرف المهتدي... آخرَهْ!

أرى الماءَ... صلباً...
لأنّي أخاف السقوطَ
وأخشى — كما قلعة الرمل تخشى — الزوالَ!
انتهينا مِراراً...
ولم نعرف الموتَ
مَنْ أخّرَهْ؟

بحثتُ — انتقاماً — عن الأصلِ... أصْلي
ولم أعرف الله كي أشكرَهْ!


2. أدهم النمريني: قارب الموت
[سوريا]


يا شَطُّ أَبكي إذ رأيتُكَ باكِيا • فمتى أراكَ بجمعِ أهلكَ هانِيا؟
لُذْ في همومِكَ ما استطعتَ فإنّني • يا شَطُّ لي عينٌ وتفضحُ ما بِيا
أنا لو مشيتُ إلى السّعادةِ ساعيا • يمشي على ظلّي الأنينُ ورائِيا
مالي سِوى ألمٍ يطوفُ بدنيتي • فالسّعدُ أصبحَ عن عيوني نائِيا
لم يبقَ لي إلّا الحروف أهزّها • في ليلتي الظّلماء تبكي حاليا
ويصيحُ في فَقْدِ الأحبةِ خافقي • ويزفُّ في خَدِّ المساءِ بُكائيا
الصّمتُ حولي لا تنامُ عيونُهُ • فضجيجُ حرفي لا يملّ ندائيا
حزناً تملّكَني المساءُ وما لهُ • إلّا التصبّر كي يطيبَ عزائيا
فَانْظُرْ لتلكَ الباكياتِ بأحرفي • يُخْبِرْنَ أنّي للأحبةِ ناعيا
فَرّوا من القهرِ الذي تَعِبوا بهِ • وَجَدوهُ في مَوجِ البحارِ مُناديا
حَزَموا حقائب موتِهم في قاربٍ • للموتِ، حينَ الموتُ أصبحَ شافِيا
بحرٌ يُنادي للأحبةِ صارخا • بالموت، لمّا الموجُ أصبحَ داعيا
تركوكَ يا شطّ الشّآم وريحهم • قَدَّتْ بحَدِّ الموجعاتِ مِدادِيا
هذي الحروف تصبُّ فوقَ دفاتري • حزناً وتروي بالدّموعِ رِثائيا
فوقَ السّطورِ تَغُصّ في آلامِها • فلقد فتحتُ لها العيون سواقيا
إن كانَ في خَدّيكَ دمعُ فراقِهمْ • فَخيوطُ دمعي قد أبانَتْ ما بيا

3. عمر هزاع: غريق على الضفة
[سوريا]


يلوّحون وما يدري بهم أحد • إلا الهدير وهذا الموج والزبد
كانوا كثيرين غرقى كنت أبعدهم • وكنت أقربهم موتاً ولا جسد
وكنت أطولهم جرماً ولا أب لي • وكنت أعرضهم جرحاً فلي ولد
وكنت؛ وحدي؛ أراهم كنت أسمعهم• حيث الفراغ أياد.. والمدى مدد
لا عاصم اليوم لا فلك ولا جبل • ولا نبيّ. ولا طوق ولا وتد
تقلّبوا في جحيم الماء أضرحة • والأرض تلطم خدّاً والعباب يد
أكان يوماً؟ ترى! أم أنّ أزمنة • من الظلام استمرّتْ؛ ما لها عدد؟!
حتّى تراخى غبار الليل عن قمر • كأنّه؛ بحبال الموج؛ منعقد
غنّى؛ لكارثة شعواء؛ ملحمة • طقوسها: الماء والإنسان والأبد

4. حسن الوفيق: قوارب الموت
[المغرب]


ما لي أرى قومي كُثُرْ • في كل درب منحدِرْ
والنار تسري فيهمُ • مثل الهشيم المستعر
والموت أضحى رغبة • والعيش أشقى من سقر
والناس تبكي حظها: • يا ليتها مثل البشر؟
جُلُّ الشباب استيأسوا • قد قَرَّروا صعب السفر
راموا كلاماً حالماً • عن سحر غرب يحتضر
خاضوا بحاراً عُزَّلاً • ألقوا بنفس في خطر
يا أمتي هل ترتضي • هذي المآسي والصور؟
ما دامت الأوطان تـ • خضع للعدو بلا نظر
والصادقون استبعدوا • من كل رأي أو أثر
لن تمطر الأقدار في • أجوائنا غير الحجر
يجني العدو ثمارنا • لكننا عُمْيُ البصر

5. وِلْيَمْ بْلِيْكْ: سفينةٌ شِراعيَّةٌ
[إنكلترا]


واقفٌ أنا على شطِّ البحرِ.
تمرُّ سفينةٌ شِراعيَّةٌ
في نسيمِ الصَّباحِ وتمضي نحوَ المحيطِ.
هي الجمالُ بِعينِه، الحياةُ بِعينِها.
أرنو إليها إلى أنْ تختفيَ في الأفقِ.
ثمَّةَ بِجانبي مَنْ يقول لي:
«ها قد مضتْ!»
مضتْ؟ إلى أين؟
مضتْ مِنْ أمام ناظِرَيَّ،
هذا كلُّ ما في الأمرِ...
صارِيَّتُها دوماً في العُلى،
بدنُها قادرٌ دوماً على نقلِ حمولتِه البشريَّةِ.
اختفاؤها مِنْ أمامِ ناظِرَيَّ يحدثُ فِيَّ،
لا فيها.
وبالذَّاتِ لحظةَ يقولُ لي أحدُهم بجانبي: «ها قد مضتْ!»
ثمَّةَ أيضاً آخرون وهم يرونها
تبزُغُ في الأفقِ قادمةً نحوهمْ،
يقولون بِفرحٍ:
«ها هيَ!»
هُوَ ذا الموتُ.

6. ثِيُوفِيلْ كوتْيِي: خِلالَ الزَّوبعةِ
[فرنسا]


المركبُ صغيرٌ والبحرُ فسيحٌ؛
والموجةُ تقذِفُنا غاضبةً نحو السَّماء،
وتُعيدُنا السماءُ نحوَ المياهِ المعتوهةِ:
لِنُصَلِّ قربَ الصَّاريَةِ المحطَّمة جاثينَ على رُكَبِنا!

بيننا وبين الموتِ، مجرَّدُ خشبةٍ.
هذا المساءَ ربَّما، فوقَ مَضْجَعٍ مُرٍّ،
تحتَ كَفَنٍ باردٍ مِنْ زَبَدٍ أبيضَ
سنذهبُ لِننامَ، يحرسُنا البرقُ!

أَيْ زهرةَ الفردوسِ، أيْ أُمَّنا العذراءَ،
الرَّؤومَ على البحَّارينَ إذا دَهَمَهُمُ الموتُ
خفِّفي وطأةَ الرِّيحِ، أخْرِسِي الشَّفْرَةَ،
وادفعي بإصبِعِكِ قارِبَنا نحو المرفأِ.

سنهِبُكِ، إنْ خلَّصتِنا،
فستاناً جميلاً مِنْ ورقٍ فضَّةٍ،
شمعةً ذاتَ جديلةٍ زهريَّةٍ تَزِنُ أربعةَ أرطالٍ،
ولِيسوعِكِ يوحناً صغيراً.
[من ديوان: إسبانيا، 1845]

7. فرناندو پسوا: بحر برتغاليّ
[البرتغال]


أيّها البحر المالح،
كم من ملحك
في دموع البرتغال!
لأنّنا عَبَرْنَاكَ،
كم من الأمّهات بكين!
كم من الأطفال ابتهلوا
للّه دون جدوى!
كم من خطيبة
لم تتزوّج،
كي تكون لنا، أيّها البحر!
أكان ثمّة من داع لذلك؟
لكلّ شيء داع
إن لم تكن الروح ذليلة
من أراد تجاوز رأس بوجادور
عليه أن يتجاوز الألم.
وهب اللّه البحر لجّة وأهوالاً.
لكنّه على البحر عكس السّماء.
[من ديوان: رسالة، 1934]

8. يانّيس ريتسوس: طَرَقات
[اليونان]


شيئاً فشيئاً تتآكل البيوتات
بالملح، الشّمس، الماء.
ذات يوم، ثمّة حيث كانت نوافذ وأناس،
لم تبق إلّا أحجار اعتلتها الرّطوبة،
وتمثال، وجهه للأرض.
الأبواب، وحدها،
تسافر على البحر،
صلبة، متمرّنة، خرقاء.
أحياناً، عند غروب الشّمس،
نراها تتلألأ في كامل استوائها
فوق المياه المغلقة للأبد.
الصّيّادون لا يلقون عليها ولو نظرة.
لقد جلسوا في بيوتهم باكرا جداً،
أمام الفانوس،
يصغون للأسماك
تنزلق من خلال شقوق أجسادهم،
يصغون للبحر يطرقهم
بألف يد (كلّها مجهولة)،
ثمّ يهوون نائمين،
والأصداف متشبّكة بشعرهم.
فجأة، يسمعون دقاً
على تلك الأبواب فيستيقظون.
[من ديوان: شهادات، 1957-1966]

9. يانّيس ريتسوس: ملحوظة ربيعيّة
[اليونان]


جسد متروك،
أحرقته الشّمس،
عار تماماً،
ما خلا ساعة اليد
التي تلمع
وسط ضربات المطرقة،
وسط الأخشاب الممدّدة،
المصقولة،
العاكسة لكلّ شمس النّهار
كشمس منمنمة،
تطفو فوق الدّم الحارق
والمتمرّد كليمونة
رماها مركب غريق.
[من ديوان: الحائط في المرآة، 1967-1971]

10. بَهْجَتْ أَيْسَانْ: الموتُ سفينةٌ بيضاءُ
[تركيا]


وأنتَ تقرأُ هذه القصيدةَ
سأكونُ ربَّما في مدينةٍ أُخرى
أُعِدُّ لِرحلةٍ طويلةٍ،
لِرحلةٍ وحدي
رحلةٍ تحكي عن خريفٍ مَرَّ بِسوءٍ
وعنْ حُبٍّ بلا أملٍ...
كَإعلاناتٍ كُتِبَتْ
على أوراقٍ شتَّتتها الريحُ
دونَ أن توزَّع...
لأنَّ الموتَ سفينةٌ بيضاءُ
تدعوها البحارُ المظلِمةُ...
فالسَّفينةُ الغريقةُ
كنجومٍ انْطَفَأَتْ
والموتُ تبدو
عناوينَ تائهةً.

11. سَانْدْرينْ ميشيلْ: سفينةُ الموت
[تركيا]


أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ
أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ
تهُزِّين الموج
فيصابُ المحيطُ بِالسُّعارِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ
أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ
ففي عُرضِكِ سفينةٌ
رأفةً بِالطَّاقَمِ

أغيثي أُولاءِ البحَّارةَ
فحياتهم في خضمِّ الموج
ليستْ هيِّنةً
وتجرِفُ سفينتَهم

أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ
أَيْ ريحُ أجِّجي اندفاعَتكِ
فأنتِ تمزِّقينَ الأشرعةَ
أوقِفي هَبَّاتِكِ

أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ
أَيْ موجةُ هدِّئي مياهَكِ
أوقِفي تأرجُحَكِ
وصيري رقيقةً ورزينةً

الزَّوارِقُ تترنَّح
حشا السَّفينةِ يتمزَّق
لِتموتَ فوقَ الماء
فَصَلُّوا، أيْ بحَّارةُ، للهِ

لقد كانوا، أيُّها المحيطُ المتعجرفُ
أبناءكَ
كانوا يحلمون بأسفارٍ
نحو ضفافٍ بعيدةٍ

طيري، أيْ أطيارَ البِحارِ
طيري، أيْ أطيارَ البِحارِ
توافَدي نحو الميناءِ
واحكي غرقَ السَّفينةِ

قولي لِلأراملِ
إنَّهم ماتوا أبطالاً
إنهم يفتحون بما فعلوا
الطَّريقَ نحو الغدِ.

المصادر
• رامي العاشق ــ «لم ينتبه أحد لموتك»، «دار ميسلون للنشر والتوزيع»، إسطنبول، 2018.
• حسن الوفيق ــ «النصر آت» ــ «مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات»، فاس، 2021.
• www.aria-ceremonie-funeraire-lyrique.com/le-voilier-william-blake
• Théophile Gautier: España, collection “Folio/classique”, Gallimard, Paris, 1981.
• Fernando Pessoa: Message, José Corti, Paris, 2018.
• Yannis Ritsos: Le mur dans le miroir, collection “Poésie”, Gallimard, Paris, 2001.
• https://lesecondsouffle.fr/la-mort-est-un-bateau-blanc
• https://short-edition.com/fr/oeuvre/poetik/le-bateau-de-la-mort