بعد اثني عشر عاماً على نجاح «تايتانيك» (1997)، لم يستطع المخرج الكندي جيمس كاميرون وضع توقيعه على فيلم لا يرقى إلى مستوى شهرته، أو بالأحرى حجمه واحترامه لذاته. بعد كل شيء، هو نفسه، في السنة ذاتها في احتفال الأوسكار جمع التماثيل كلها، وصاح «أنا ملك العالم». نتيجة جنون العظمة هذه أوصلته عام 2009 إلى «أفاتار»: فيلم بميزانية بلغت 237 مليون دولار. لغاية اليوم، يحتل الفيلم المرتبة الأولى على قائمة شباك التذاكر بإيرادات وصلت إلى أكثر من مليارَي دولار. يُعدّ الفيلم ثورة في التجربة السينمائية في القرن الحادي والعشرين. قدّم مفهوماً جديداً للأبعاد الثلاثية، وانتظر كاميرون التكنولوجيا لتكون متاحة لبدء التصوير، واخترع هو وفريق عمله لغةً محكيةً جديدةً خاصة للفيلم. والنتيجة: فيلم ضخم من حيث الإنتاج ومن حيث التقنيات الجديدة، و60 في المئة منه صنع رقمياً و40 في المئة حركة حية.في نهاية هذا العام، ننتظر الجزء الثاني بعنوان «أفاتار: طريق المياه». مرة أخرى، انتظر جيمس كاميرون التكنولوجيا ليطوّعها لصالحه. لن تقف القصص هنا، فـ «أفاتار» الثالث بات اليوم في مرحلة ما بعد الإنتاج، والرابع والخامس في مرحلة التصوير. هذه السلسلة سوف تظل معنا لوقت طويل. وفي انتظار الفيلم الجديد الذي سيطرح في نهاية هذا العام، فلنعد تذكر «أفاتار» الأول الذي أعيد طرحه هذا الشهر في الصالات السينمائية العالمية واللبنانية.

من الجزء الثاني

يحتوي الفيلم على كل شيء: خيال علمي، ممثلين جدد ومخضرمين أمثال سيغروني ويڤر، موسيقى ملحمية لجيمس هورنر، مؤثرات جديدة خاصة، كتبت فصلاً جديداً للـ CGI، وفوق كل هذا الكشف عن عالم كامل وجديد أمام أعيننا مباشرة. يشتمل العمل على عناصر تناسب جميع الأذواق، الحركة والفانتازيا، والرومانسية، وطبعاً لم ننسَ النظارات الخاصة قبل دخول الصالة. مضمون الفيلم ليس بجديد، يدور في ديناميكية «الإنسان مقابل الطبيعة». ما هو أمام أعيننا عالم يحوي مخلوقات غريبة ولغات جديدة وحاضراً مضطرباً بسبب الإنسان، ومستقبلاً غير مضمون. نحن في عام 2154، وباندورا اسم قمر مليء بالنباتات والسحر حيث يعيش na›vi، جنس من المخلوقات مرتبطة بالطبيعة والروحانية التي تنبع من الأرض وقوة التدين الراسخ في الطبيعة. وصل الإنسان إلى هناك أيضاً، وطبعاً سيصارع السكان الأصليين عبر عمليات عسكرية بقصد الحصول على معدن ضروري للبقاء النشط لكوكب الأرض. هذا المعدن موجود في قرية وتحت شجرة كبيرة، تعتبر الأم وهي لا ترغب ولا حتى السكان، بالاستسلام للغزو البشري. يُرسل جايك (سام ورثنغتون)، أحد أفراد المشاة البحرية المقعدين، للمشاركة في العمليات في باندورا، حيث تمكن البشر من تهجين أنفسهم، ودخول القرية والعيش معهم لتطويعهم. الدكتورة غريس (سيغروني ويڤر) وهي من دعاة السلام ومحبّة للبيولوجيا وحساسة لحياة السكان الأصليين، تدير هذه العملية التي يريد الجيش استخدامها لمصلحتها لتدمير المدينة المقدسة. يتمكّن سولي من التسلل إلى مجموعة أوماتيكايا العظيمة بعد لقائه نيتيري (زوي سالدانا). وعند هذه النقطة، انغمس في جلد المواطن الأصلي وبدأ ضميره في التمزّق بين واجبه كقائد بحري، وشغفه بحرية العيش والمشي في باندورا وسحرها والدفاع عن سكانها.


الفيلم عبارة عن توليفة بين حكاية بيئية صوفية ومعادية للإمبريالية والاستعمار والرأسمالية والحرب. هذه هي «رسالة» الفيلم الذي كان هيتشكوك يفضل تركها في يد ساعي البريد. تم الاحتفال كثيراً بالفيلم، لكن بعيداً عن الإبهار التقني، لم يكن لدى كاميرون لإخبار قصة رويت آلاف المرات إلا إنتاج فيلم بهذه الضخامة. ألبسنا كاميرون النظارات الثلاثية الأبعاد، ليخفي من خلالها كل ما هو سيء في الفيلم، من التفسيرات غير الضرورية وغير المقنعة لغزو باندورا والسكان الذين قبلوا باندماج البشر في وقت من الأوقات معهم بسخاء مشبوه، إلى السرد المبتدئ، ناهيك بالحلول التي ينتهي المخرج إلى إيجادها لحلّ فيلمه على عجل. تعامل كاميرون مع القصة بحزن شديد، فتراكمت الدراما بشكل غير مبرر. باختصار، «أفاتار» فيلم فارغ من المضمون، فهو يسمح لنفسه برفاهية تلقيننا القصة من دون أن يعرف كيف يقنعنا. إنه يبيع لنا فلسفة مبسطة، «هيبي» جديدة، حيث يتم تقديس العودة إلى الأصول، للإنسان في حالة نقية وعلى اتصال مع الطبيعة الأم، مجردة من كل حضارة خبيثة.
يعد «أفاتار» إحدى أكثر الظواهر إثارة للفضول في تاريخ السينما. لا شك في أنّه فيلم وصل إلى الكمال التقني في وقته. استخدم التكنولوجيا الأكثر تقدماً لإبهار العالم ورواية قصة جندي مشلول يجد الحرية في جسد مستعار ومعنى الحياة، جنباً إلى جنب مع سكان كوكب على وشك النهب. الفيلم مجرد زينة، ترنيمة للاختلاف والتصالح مع الطبيعة، رويت بشكل مذهل بصرياً فقط. من السهل الوقوع فريسة «أفاتار» وهذا طبيعي، فهو عبارة عن كاميرون مندمج في الوثن التكنولوجي وسحر العصر الجديد. كاميرون مخرج ذكي جداً، يعرف تماماً ما يريد تقديمه من دون ادعاء، قدم لنا أفلاماً كلاسيكية لا يزال الاحتفال بها قائماً إلى اليوم مثل سلسلة «تيرمينايتور» وفيلم «إيليانز» (1984). وعرف جيداً ما سوف يكون عليه «أفاتار»، وقال: «لا أعرف ما إذا كان سيكون فيلماً رائعاً، من وجهة نظر سردية أو نقدية. لكن نعم، تجربة «أفاتار» ستكون مختلفة عن أي تجربة رأيتها من قبل».
الفيلم عبارة عن توليفة معادية للإمبريالية والاستعمار والرأسمالية


بعد عرض الفيلم، جفت الأقلام بمقالات وعناوين كبيرة مثل: جيمس كاميرون أحدث ثورة في السينما. كاميرون يعيد ابتكار السينما. كاميرون يحول السينما إلى تجربة جديدة. هذه العناوين تكررت عبر تاريخ السينما، ولكن على الرغم من ضخامة «أفاتار»، فإن وضعه في مكان عالٍ جداً، وتصنيفه بأنه أحدث ثورة في السينما، هو أمر غير واقعي. نعم، لقد قدم الشريط مفهوماً جديداً للمشاهدة، وأضاف عناصر تقنية كبيرة لم تكن موجودة، ولكن ثورة السينما حدثت على يد تشارلي تشابلن، والأخوين ماركس، وألفرد هيتشكوك وجون فورد والواقعيين الجدد ومخرجي الموجة الفرنسية الجديدة وغيرهم. لم يكن أي منهم تقنياً. كانوا فنانين، ثورة السينما الحقيقية تحدث على يد الفنانين المخرجين بمساعدة التقنيين، لا التقنيين وحدهم، فلا يمكن لثورة تكنولوجية أن تحدث تغييراً جذرياً في ماهية السينما الأساسية ولغتها الأولى. فلنحتفل بالكوكب الأزرق والمخلوقات الزرقاء واللغة الجديدة والإبهار البصري، ولننغمس في سحر الشاشة الكبيرة. سوف نذهب إلى السينما لمشاهدة العمل الجديد بالطبع. ولأن السلسلة سوف تبقى معنا لسنوات طويلة، نتمنى أن يصبح مضمون الفيلم بنفس مستواه البصري.

* Avatar في الصالات



نجم الإيرادات
من المقرر أن يطرح فيلم Avatar: The Way of Water للمخرج جيمس كاميرون في دور السينما في كانون الأوّل (ديسمبر) 2022. وكان الجزء الأول ركّز على معركة السيطرة على الموارد الطبيعية بين المستعمرين البشريين وشعب النافي ذي البشرة الزرقاء على قمر يسمى «باندورا». يتصدّر فيلم «أفاتار» الأصلي قائمة أكثر الأفلام تحقيقاً للإيرادات بجمعه أكثر من 2.8 مليار دولار على مستوى العالم. ويخطّط كاميرون لإطلاق أربعة أفلام أخرى من السلسلة حتى عام 2028.