شيء أقرب إلى حكايات الجنيات، بلا جنيات. لم أنتظر ما سيسقط على كتفي من أوّل النهار. دخول إلى المخيم، كأنّه دخول إلى الشقاء. هذا ما يتبادر حينما ترجرج الأفكار قاربك الغارق في ماء الأيام. المخيم، إذن شقاء، إذن دموع تنحدر، إذن حجرات موحشة، إذن بشر، جمهور يعيش على بقايا الجدران. ولكن الدخول مع الدكتور ظافر الخطيب، ضرب الرجلين بالأرض من دون الخوف من أن تصطدم بالمتسكعين على الطرقات. لا فزاعات، لا رجال قش. عصافير، فقط عصافير تغرّد كما تغرّد عيون الملائكة وهي تطير كالخرافات بأجسادها الطرية العنيدة. منذ الدخول من البوابة إلى مخيم عين الحلوة، سيقفز مقص إلى يديك، سيقص الصور الزائدة، الصور المبالغة، لكي تستوي الصور على عناوينها بعدما علقت العناوين هذه في الريح. كأس شاي، أو كأس من نور، ثم تمضي مع واحدة من سيدات «ناشط»، مع سيدات زوادتنا بدون وداع في زيارة إلى أسطح منازل المخيم الفلسطيني. سيدة لا كبيرة ولا صغيرة. غير أنّها تقودك إلى المشروع كالسنونة. طيران إلى أكروبول الزراعة لا إلى ملهى أو مقهى. لا وردة يتيمة تترك على مكتب، ثم تنصرف. الورد كثير. كل شريك وردة، لن تذبل على مكتب ولن تنصرف إلى موتها. لأنّ الشرفات، السطوح، على سعتها أو ضيقها، لن تملأ بالورد ولا بالياسمين. خضار لا تغلق عيونها وتنام وهي تتفتح على الحياة. ذلك أنّ السطوح لن تعود فارغة قط، بعدما تهادت المزروعات عليها كراقصات الباليه. بندورة وخيار وباذنجان على تراب خاص يرتب الأحلام بعيداً من رجال الثلج أو السابحين في بحار الصيف. إنّه مشروع صلب. ومشروع من شرع، هذا أصلها. ومن يشرع يرفع شجر العيد لا القصائد في الشوارع. لأن القصائد لا تطرق الأبواب. ولو أن في مشروع التنمية الزراعية، شيئاً من الشعرية، ما دام من يقفون عليه يلقنون الشوك دروس الخضار، كل نبتة امرأة تقف على تاء التأنيث لا تاء التعنيف. هذا مشروع ضد التصحر، مشروع أولاد وأحفاد، مشروع إلغاء حلبات الكوريدا ومصارعي الماتدور بصالح من يعانون القلة، الوحدة، سماع صرير العمر كصرير العربات المتدحرجة على حبات البرد. المزروعات ترقص على السطوح، لكي تضيء آخر الآمال الساخنة بحياة معقولة أكثر، مع هذا العمل المسوغ، هذا النشاط الاقتصادي، حيث يرى الرجل، حيث ترى المرأة ما يكبر بين يديها بجزل، شيء من المصطفى من الرقة من أجل أن يهب بعضهم نصيبه من الهدايا. كل شيء مجاني من «ناشط». ثم هناك امرأة، أراها وحيدة تطرق مزروعاتها كأنها ترتب سلة الخروج إلى عطلتها السنوية مع مشروع لا يبعثر نفسه خلف السطور وهو يمارس الحكمة بعيداً من جلسات اليوغا. ازرعوا، كلام بوصلة. لا أرزة ولا سنديانة ولا حورة. ازرعوا ما يؤكل بشراسة أو وداعة، ولكن ازرعوا. هكذا تحاصر الزراعة الشراسة في الإنسان، هكذا تحولها إلى وداعة، بعدما انطوى المشروع على بحوثه وتصاميمه وأهدافه. هناك دورة حياة المشروع. لكل مشروع حياته. مشروع «ناشط»، خروج على النهارات الطائشة والليالي الحالكة. مشروع عازم على الإطاحة بذئاب البوادي. لا يهمه أن يضحي راعي فراشات ولا الجلوس على الأكمة. يدرك أصحاب المشروع أنه كلما قل تأثيرهم على المشروع، يقل خطره. وبما أن الأول عازمون على عدم التأثير، إذن لا خطر. أسراب الخضار لا تتعب العيون ولا تتعب البصر. بالعكس. أن ترى ظلك ممدداً على ما زرعت، هذا ليس خطأ مراً، هذا جزء من تحويل الأوضاع العاتية إلى أوضاع لا تمضغ الناس بأسنان مستعارة. سوف يحتفل الجميع بالزرع والقطف. الأهم أن المشروع يذيبهم في نوع من التشبيك. لا إمساك بمحاريث ولا بأدوات الزراعة المعروفة، لأن الزراعة ليست مدفعاً يوجه إلى طائرة من ورق ولا تناوش الديكة على حدود القرى. القرية على السطح. ثم إن تشبيك العلاقات بين الزارعين لا يمت إلى علاقات الترييف بصلة. وهذه واحدة من ميزات الإدهاش في المشروع. تزرع ولا تريف. تشبك، تدير على الأهداف المحددة. تشبك، تقيم ما يتخطى العلاقات الاجتماعية إلى الروابط الأسرية من خلال التواصل المحمود أمام حدائق يصلها أصحابها كما لو أنهم يصلون إلى عصور الذهب.
جمعية تمشط الناس بالأمل وهي تسحب عيون الناس من هذا الجحيم

حين ينال التعب من زارع يخرج منديله لكي يمسح به جبهته أو جبهتها. زراعة كزراعة حبات القمح. نالت المجتمعات الصناعية من المجتمع الزراعي. لا أتكلم على تغييب المدينة بصالح المستعمرة أو العودة إلى مرحلة ما قبل المدينة. لا أحد يستطيع أن يسحب نفسه إلى هذه الفكرة، ولكن أن تقف إلى جانب صبارة على سطح منزلك، في ذلك من الواقع ما فيه من الخيال والجمال. كلما طوح أحدهم يديه على الرمل تاخم فكرة «ناشط»، حيث لا تريد الأخيرة أن تقرأ سور الموتى على الناس قبل أن يموتوا. جمعية تمشط الناس بالأمل وهي تسحب عيون الناس من هذا الجحيم إلى جناتهم على أسطحهم. لن تتخيل زارعاً بغليونه على كرسيه الهزاز هنا، لأن ناس المشروع بسطاء إلى حد أنهم يستطيعون الإبحار في قلوبهم، لأنهم لا يمتلكون قوارب. أداة استراتيجية للحد من الفقر وانعدام الأمن الغذائي وزيادة فرص العمل لا في المصانع ولا في المناطق النائية، على السطوح، سطحك، سطحها، سطحهم، سطوحهم. السيدة إلى جانبي من قارة أو كوكب آخر وهي تشرح وتسأل المزارعين عن حاجاتهم لكي يضعوا رؤوسهم على وساداتهم وهم يجففون حسراتهم بأفعالهم وأفعال جيرانهم، من يقفون إلى جانب بعضهم كما تقف العائلات في البومات الصور، قريبة، أليفة. هذا مشروع يسمح باستمرار الإضاءة في داخل الإنسان. مشروع بعيد في السياسة ولو أن السياسة لا تركن في المشروع. تحسين كفاءة، تحسين إنتاجية. استدامة، تنمية مستدامة. لا تعزيز لأفكار الوصول إلى الأسواق لأن السطح سوق الزارع، لأن ناشط سوق الزارع. لن تنفض الأخيرة أعقاب الحب من مجتمع ينمو ضده. إنها تجلس على العتبات، لتتجاذب أطراف الأيام مع الزراع، المرأة إلى جانب زوجها، العجوز إلى جانب عمره، الولد إلى جانب أمه وهو يحيط جيدها بأجمل المزروعات. أسير على طريق العودة وكأنني أسير تحت المظلة من مطر الصور. إقامة نظام زراعي على مرونة الجماعة لا على مرونة النظم الزراعية وحدها، تحقق من قائمة أولويات أولها الكرامة، آخرها الكرامة. كرامة الإنسان. المخيم بعيداً من ماضيه، المخيم في حاضره مع هذا المشروع ومثله. لن يفوت أحد القطار ما دام يمتلك الرغبة. هكذا يخرج المخيم وناسه من نظراتهم المرتابة إلى عملية عنيدة تتهادى في عطرها بعيداً من المايكروفون والكاميرا. ما أراه شريط نجاة.