لم يبالغ الروائي الليبي ابراهيم الكوني حين وصف رواية أحمد علي الزين «بريد الغروب» (الساقي) بأنّها «عمل روائي أصيل، تسطع في سمائه شمس الاغتراب: اغتراب وجودي ذو أبعاد غيبية يحيل التجربة الدنيوية ضرباً من قدر مطبوع بروح الميتافيزيقا، يحيله السرد الشعري أنشودة غنائية». هذه الرواية متداخلة بين الحلم والواقع، بين الاسطورة والمترفع، فيها من الحب والغربة والوطن وعصابات الحكم الديكتاتوري، وأنظمة لا قيمة للانسان فيها، وحاكم فرد يرى في مواطنيه حشرات يجب دعسها ببسطاره. ساحرة هذه الرواية، أساس أحداثها شخصان: هدى، وعبد الجليل الغزال في ثلاثية تنقلك من حيث لا تشعر الى غرائبية تصدق ولا تصدق. هدى أحبت ووهبت جسدها للحبيب الشاعر شوقي، فكانت النتيجة ضربة على رأسها بعصا غليظة من والدها. تجري الأحداث عندما كان الردع السوري منتشراً في لبنان، وعندما كانت أجهزة استخبارات هذا النظام تعتقل على الشبهة، وتعذّب وتقتل وتغتصب من دون حسيب. رواية بثلاثة أجزاء تختتم بذكريات عبد الجليل الغزال. إنّها رحلته مع مغادرة منظمة التحرير بيروت.
يندس بين رجالها، هو العراقي الذي جاء بيروت مدفوعاً بوطنيته وأحلامه بأن يرى وطناً عربياً خالصاً من القبائلية الى أمة متحضرة تنشد أن تكون في مطلع الأمم، لكن الخيبات تتوالى من لحظة ذهابه الى تونس وعودته الى بيروت ليعلق شغفاً بهدى المطعونة بشرفها من قبل أهلها، خصوصاً أمها التي تجلب الداية العجوز لتغتصبها ثانية بإدخال اصبعها لتتأكد ما اذا كانت لا تزال عذراء. هذه الحادثة هي ذاتها التي تجعل المرأة حالة استهلاكية في مجتمع ذكوري لا يرى فيها الا وعاء لإفراغ شهوته. لكن هدى تتحدى مصيرها حين تدخل ثانية في علاقة كاملة مع عبد الجليل الغزال. هذا العراقي المطارد من بعثين بعث العراق وبعث سوريا حيث يتقاذفاه من سجن الى سجن ومن جلاد الى جلاد، ولا يجد مناصاً من توهان لا يتوقف في صحراء ليس فيها الا الرمال والشمس الحارقة وصولاً الى اختيار الموت، كوسيلة للخروج من هذه المعمعة التي تحرق الأخضر واليابس. يجد طريقة وحيدة للموت بأن يحرقه رفيق صحرائه حياً، كما يحرق الهنود جثث امواتهم. هو يشاهد موته بعينيه ويصف هذا الوطن من الحافة الى الحافة كيف يغتال أبناءه، ويعلّق مشانقهم في الأشجار الشاردة أو يغتصب رجاله البنات الصغيرات من دون أن يأبهوا لصراخهن الفاجع. لا تنسى الرواية صاحب مجلة «الحوادث» سليم اللوزي الذي خطف واحتفى، وعثروا عليه بعد أيام على مكبّ النفايات وقد نبرت أصابعه.
بلغة ملزوزة تنطلق احداث الرواية كنبع متدفق الى مجراه. لغة شعرية متفوقة على نفسها توحي بثقافة الكاتب وقاموسه، وقد ساعدته في التقاط اللحظة بما يُشعر المرء بدقة الزمن واللحظات الخافقة، ليس في ساعة الحائط بل في القلب. عمل رائع مكتوب بحرفية متماسكة فلا يفلت منها شيء، وكل التفاصيل هي من صلب الرواية. عالم عربي يشبه جمال الصحراء، حيث كل عربي نظر الى الآخر بريبة وخوف في طول هذا الوطن، هذا الخراب والحروف والقتل بأي وسيلة. الانقلابات تجلب ديكتاتوريين وطغاة، وثورات تنتهي بذبح بعضها بعضاً. كل هذا وغيره صوره لنا أحمد علي الزين، فيكشفنا من داخل ويعرينا، فإذا بنا مجموعة قبائل متوحشة ليس عندها الا القتل ولذة اغتصاب فتيات قاصرات. سجون، ومشانق، وطعن من الخلف، كما كان البدوي في الزمان الغابر.