بعد ربع قرن على الهجرة الأولى إلى كوبنهاغن، والعودة إليها مرّة أخرى، يستعيد الراوي رحلته بين المنافي بصحبة صديقيه «نادر راديو» و«نامق سبنسر»، والمصائر التي انتهوا إليها، مغلقاً القوس على مكابدات هؤلاء في تلمّس حيوات أخرى، من دون جدوى. في روايته «أنا ونامق سبنسر» (دار الجمل)، يفحص شاكر الأنباري (1957) نصّ المنفى عن كثب. وإذا بجحيم الغربة لا يقل وطأة عن جحيم الوطن. العالم حوله تحوّل إلى غابة، وما عليك إلا أن تجد طريقة للعيش في هذه المتاهة. ليس للعراقي إذاً، غير الترحال على خطى سلفه السندباد، لكن هذه المرّة، ليس بقصد الاكتشاف، أو محاولة كسر بيضة الرّخ، بل للبقاء. يلتقي الأصدقاء الثلاثة في «مخيم كرج» الإيراني، بعد رحلة هروب من بغداد، إلى جبال كردستان، ثم يجتمعون في دمشق، يتقاسمون أياماً وأعمالاً بائسة، قبل أن يستقروا في مخيم للجوء في الدانمارك. لكن ما الذي تغيّر بعد سنوات من الغياب؟ أعمال هامشية وزيجات فاشلة وندوب في الروح على بلادٍ بعيدة، لم تعد موجودة إلا باستعادة الحنين إليها، كأن الأغاني العراقية هي الخيط الأخير الذي يربط هؤلاء برائحة الهواء القديم، فيما يعيش الراوي حائراً بين زمهرير الشمال والشمس اللاهبة في بغداد.
في كوبنهاغن يسعى إلى ترميم علاقته بزوجته البرازيلية التي انفصل عنها، بعد إنجابه منها ابنتين، لكنه يفشل مراراً، فينخرط في أعمال مختلفة، في محاولة للنسيان وبناء حياة جديدة، إلى أن يلتقي صاحب جريدة «الخبر» الناطقة بالعربية، فيعمل معه بحماسة، تنتهي بتكليفه إعداد ملف عن «أرشيف العنف». هكذا يغادر كوبنهاغن مجدداً إلى بغداد لإنجاز الملف.
هذه بغداد أخرى، أو «خزّان للموت» مفتوح على مذابح لا تنتهي، يصعب تفسيرها. ورغم قناعته بأنّ «العنف لا يورّث»، إلا أن الوقائع اليومية تطيح فكرته. لقاؤه «سرى» الصحافية الشابة التي تعمل في صحيفة يديرها صديقه سامر تفتح أمامه أفقاً آخر، ينتهي بعلاقة سريّة متأججة تخفف عنه اضطرابه وعزلته في مدينة يكاد لا يعرفها.

خريطة العراق
الجديدة غارقة في العنف والفوضى والوحشية
لكن جولاته مع سرى إلى الأمكنة القديمة تعيد إليه بعض الطمأنينة، إلى أن تهجره بعد اكتشاف صديقه سامر العلاقة بينهما، فتنشأ قطيعة حاسمة بين الصديقين القديمين، ويضطر الراوي لمغادرة مكتب صديقه إلى مكان آخر، فيما تعود سرى إلى عشيقها الأول «سامر»، وتمتنع عن الاتصال به.
عنف يومي ونزوات وموتى جدد. يختطف الموت نامق في كوبنهاغن بتأثير حالته الكحولية، ويغرق نادر في عزلته، فيما يختفي صاحب جريدة «الخبر»، من دون أن يتسلم ما تبقى من «أرشيف العنف»، وإذا بالحياة لا تحتمل الغفران أو الندم. يمزج صاحب «بلاد سعيدة» بين ما هو سيروي ووثائقي لرسم خريطة العراق الجديدة الغارقة بالعنف والفوضى والوحشية، كما يرصد معنى المنفى لأجيال وجدت نفسها أسيرة «متناقضات اللغة والثقافة والاغتصاب»، وصعوبة الاندماج في عالم مختلف، ينبذ الهويّات الطارئة والتائه والمجهضة. تتناهب الراوي الأمكنة والشهوات والخيبات، حتى يكاد ألا يجد بوصلة لمعرفة موطئ قدمه، فهو «شخص محشو بالذكريات»، من بغداد ودمشق، إلى ساو باولو وكوبنهاغن، يجوس تضاريس هذه المدن بحواسه، قبل أن يستيقظ على أسئلة وجودية صعبة، تتعلق بمعنى الانتماء.أن تقرأ رواية عراقية اليوم، فأنت على موعد حاسم مع العنف والتيه والموت، فلكل عراقي حكايته المأساوية، وسيرته المترعة بالألم، وقوقعته التي تفور باليأس والإحباط والعتمة.