العائلة الملكية البريطانية في كل مكان، سواء في الأخبار أو الصحف أو التلفزيون والأفلام، وازدادت هذه الحمّى مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية (1926 – 2022) قبل أيام. في عمر 96 عاماً، شهدت الملكة الراحلة الكثير من الأحداث والمفترقات المصيرية في التاريخ المعاصر. أمر لم يمرّ من دون أن يلحظه ويحفظه عالم السينما والتلفزيون. بعدما حكمت لمدة 70 عاماً، لا يمكن التقليل من مكانة الملكة كرمز ثقافي، بخاصة في الفن وعلى الشاشة. تحكي الأفلام التي تتكلم عن العائلة الملكية قصصاً مألوفة إلى حد ما حول الملوك والملكات والأمراء والأميرات في الماضي والحاضر. وهذا مؤشر إلى أنّ المؤسسة الملكية لا تزال من أكثر جوانب «التراث الوطني» البريطاني ديمومةً. لا تزال هذه الأفلام والقصص والشخصيات تلعب دوراً حيوياً في التجربة التاريخية والمعاصرة لإسقاط الهوية الوطنية البريطانية والأفكار القومية. تتم إعادة تدوير هذه القصص والشخصيات إلى ما لا نهاية، لأنّ النظام الملكي وتاريخه قابل للتسويق بدرجة كبيرة. بينما تتفاعل هذه الأفلام مع التاريخ، فهي أيضاً مصمّمة كسلع ترفيهية مربحة. هذه الأفلام تحمل أفكاراً معيّنة حول الكيفية التي قد ننظر بها إلى الماضي، وكيف يمكن استخدام الماضي في الحاضر.
فيلم «خطاب الملك» (2010)

من أهم سمات التراث الملكي البريطاني هو الشعور بطول العمر والتقاليد، وفي جزء منه ترسيخ الشعور بالاستمرارية بين الماضي والحاضر. تلعب هذه الأفلام دوراً مهماً في تقديم النظام الملكي على أنه محلي، طبيعي وأنثوي، والملكة ممثلة كرئيس للعائلة المالكة، وبالتالي الأسرة الوطنية. تكمن القوة الناعمة لهذه الصور والمشاهد الملكية في قدرتها على كسب الموافقة الشعبية على المؤسسة المالكة، من خلال القصص التي ترويها، خصوصاً الطريقة التي تصوّر بها النظام الملكي. قدمت السينما في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين أفراد العائلة الملكية من دون قوة كبيرة، لكنها أيضاً صوّرتها على أنها كاريزماتية. قد لا يكون أفرادها ذوي أهمية سياسية، ولا قادرين على قيادة جيش أو أمة كما في الأفلام التاريخية عن الملوك، وهذا ليس مطلوباً منهم الآن، لا واقعياً ولا سينمائياً. المطلوب منهم جذب الانتباه كشخصيات ذات أهمية اجتماعية وثقافية، هذه الأهمية هي في جزء منها تأكيد على التميز الوطني والقومي في عالم متزايد العولمة. لعبت السينما دوراً في تجديد الصورة الملكية البريطانية خارج المجال السياسي، وفي الوقت نفسه انتقدتها.
تميل نهايات الأفلام التي تدور حول الملوك المعاصرين إلى رؤية هذه الشخصيات تنتصر أخيراً على الشدائد، وتصل إلى موقف تشعر فيها بالراحة تجاه واجباتها ومسؤولياتها وبارتياح مع أجسادها ورغباتها وعواطفها. وهكذا يكون جورج الثالث قادراً على الظهور بنفسه مرة أخرى وتقديم تلك الذات علانيةً لشعبه في نهاية فيلم «جنون الملك جورج» (1994)، مرتدياً ملابس مناسبة. ويستطيع الملك جورج السادس التغلّب على تلعثمه لإلقاء خطابه الحاسم ويقدم نفسه علناً لشعبه محاطاً مرة أخرى بالعائلة الملكية في فيلم «خطاب الملك» (2010). واستطاعت الملكة إليزابيث الثانية في فيلم «الملكة» (2006) إعادة ترسيخ اليقين الطبقي وسلطتها الرمزية.

من فيلم «جنون الملك جورج» (1994)

منذ تتويجها ملكةً عام 1953، أصبحت الملكة إليزابيث الثانية من أشهر الوجوه في القرنين العشرين والحادي والعشرين، رمزاً للديمومة. شيء لم يمر مرور الكرام في السينما، إذ تم تقديم حياة الملكة في جميع المجالات والأشكال ووجهات النظر وفي جميع مراحل حياتها، كـ ابنة وأم وجدّة ورئيسة دولة من الدراما إلى الكوميديا الهزلية.
لا يزال مسلسل The Crown على نتفليكس بعد أربعة مواسم، يتعمّق في حياة إليزابيث الثانية. من خلال الجمع بين القصص الخيالية والنبرة شبه الحميمية التي تضفي طابعاً إنسانياً على الصورة البعيدة للملكة، يقدم المؤلف بيتر مورغان صورة قريبة جداً للمرأة التي أمضت معظم سنوات حياتها على عرش المملكة المتحدة. كانت الممثلة البريطانية كلير فوي أول من خاض تحدي تمثيل دور الملكة في شبابها خلال الموسمين الأوّلين. حال وصول الملكة على العرش، تولت الممثلة أوليفيا كولمان دور البطولة خلال الموسمين الثالث والرابع. وفي الموسمين الخامس والسادس، من المتوقع أن تقوم إيميلدا ستونتون بدور الملكة في العقود الأخيرة لها على العرش. أصبحت شخصية إليزابيث الثانية مركز رحلة رسمية من خلال فكرة إنكلترا باعتبارها إمبراطورية، وفي ما بعد كدولة تبحث عن هويتها. بالنسبة للمؤلف، أصبح سرد حياة الملكة مهمة دقيقة شملت جميع مساحاتها وأبعادها، ما سمح ـــ على الرغم من النقد الخفي للتاج ـــ بتحليل الملكة بما يتجاوز صورتها كشخصية عامة. نقد مورغان للتاج واجهه نقد من العائلة والمقربين منهم ووسائل الإعلام الذين اتهموا نتفليكس ومورغان باستغلال آلام العائلة المالكة لتحقيق مكاسب مالية، وتقديم نسخة ملتوية عن الأحداث. وقيل إن هذه الدراما تم تصنيعها تجارياً من دون مراعاة الأشخاص الممثلين الذيم تم اختطاف قصصهم واستغلالهم من دون التفكير في مشاعر أي شخص.
فيلم «الملكة» قدّم الأخيرة كركيزة أساسية في الوعي الإنكليزي


كانت وفاة الأميرة ديانا واحدة من أهم اللحظات التي مر بها التاج البريطاني في العقود الأخيرة. المخرج ستيفن فريرز التقط هذه القصة التي هزت المملكة وأعادت صياغة قيمة الرموز في إنكلترا في فيلم «الملكة» (2006). مع هيلين ميرين بدور الملكة، يعكس الفيلم دور التاج في خضم مبارزة وطنية غير مسبوقة. الفيلم عبارة عن تحليل واعٍ ومبني جيداً، لفكرة إليزابيث كركيزة أساسية للوعي الإنكليزي. الأحداث التي أعقبت وفاة الأميرة ديانا، كانت أكثر الحلقات تشنجاً في حياة الملكة والمخرج الإنكليزي التقط هذه الأحداث والتعقيد بسبب وسائل الإعلام والبروتوكول الملكي في ما بتعلق بوضع ديانا الرسمي والقضايا الأوسع حول الجمهوريانية في المملكة المتحدة. منذ المشاهد الأولى، ينخرط البريطاني، تحت غطاء السخرية، في انعكاس حقيقي ولذيذ على أداء مؤسسات بلاده ويضع شخصياته في خضم أزمة نظام ملكية. مع الأحداث شبه الحقيقية مزجاً بمشاهد الأرشيف، يجد المخرج نغمة فيلمه ويضعنا أمام فيلم مثير للسخرية وفي بعض الأحيان رقيقاً بعيداً عن أي مانوية.
ظهرت الملكة كشخصية في أكثر من عشرين فيلماً روائياً، ناهيك بالعديد من الوثائقيات والبرامج التلفزيونية. لأسباب كثيرة، من الواضح أن هوس السينما بالملوك لن يتغير. على الرغم من أننا لن نعرف أبداً كيف كانت حياة الملكة من الداخل، تظل الملكية مصدراً غنياً لتعقيد السرد السينمائي. لكنهم موجودون في عالم مختلف تماماً لن نعرفه حق المعرفة، ربما تخدعنا السينما في التفكير في أنه عالمنا أيضاً.