«هو القلب...أم حفنة من دخان القرى؟ قال لي صاحبي:/ نشأنا معاً/وضحكنا معاً/ وشربنا معاً وحل أقدامنا/ فهل أنت مثلي غداً ميّت في المدينة؟/ قلت: هذا اتجاهي/ من النهر حتى احتراقاته في الخليجْ/ جنوباً/ جنوباً/ جنوباً/ وكل الجهات التي حدّدتني... غدت واحدة./ قال لي:/ أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟/ قلت: أمي نهتني عن الموت إلا على صدرها/ قال: خذ رقم قبري.../ وغابْ/ ولما التقينا/ بكينا معاً فوق صدر التراب».إنها أصعب المراثي يا «شمس»، الاعتداء الأوقح الذي يقوم به الموت على طفولتي وكلماتي وذكرياتي، على القرى وميازيب الماء في السواقي، والشمس المرة فوق حقولنا المحروقة بالبارود والنار، والمطالع الكربلائيّة في القصائد يقوم أبناؤنا فيها من الموت مكلّلين بالحنّاء في عرس القاسم، يشيّعون زينب من القصيدة إلى جدتها تقدّم لأخيها عند التلّ جواد المنية إلى الفجيعة... «غنوا... غنوا» ربما كان الكتاب الأول الذي لمسته يداي عام 1983 بذلك الإهداء بقلم الحبر السائل: «لمحمد... الذي سيصبح شاعراً حين يكبر». من يومها صار محمد علي شمس الدين (1942-2022) الذي رحل أمس ووري الثرى في عربصاليم (النبطية ـ جنوب لبنان)، الشاعر والبطل والملهم، و«الفتى ميم» الذي أزوره في مكتبته وأرافقه في التحديق في المدى من شرفة منزله في «عربصاليم» وأتتبّع قصائده وأحفظ بعضها عن ظهر قلب، من «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» إلى «الشوكة البنفسجية» إلى «أميرال الطيور» و«الغيوم التي في الضواحي» و«اليأس من الوردة». شعرٌ اقتحاميّ يُقرأ بالجهاز العصبي ويستنفر الحواس بأكملها وفيه ما يشبه الوخز بالإبر.

لم يتوان عن رفض جائزة مرموقة بعد اتفاقات التطبيع مع الكيان الغاصب

شعرٌ يصعب فكاكه عن الأرض الجنوبية والدم على عنق طفلها المفطوم، وعن دم «قيس» في العشق بين وقع خلاخيل «ليلى» والنار. شعرٌ يشبه صاحبه من نبرة الصوت التي لا تميزها عن خفق الماء في نهر «الزهراني» في كعب جبل الريحان، إلى تلك العيون الجميلة التي تنعكس فيها حدائق شيراز تغني مع المغني في نشوته الصوفية: «حطِّم جبينَكَ إنْ لَم تَبْتهج طرباً/ بالراحِ تُسْكَبُ في أيامِكَ الحُرُمِ»، إلى ذلك القلب المسكون بالإيقاع «يدعوني الطير إلى الطربِ»، وتلك الروح المحبة التي لم تعاملنا يوماً كـ «شعراء شباب» نتلمّس خطانا في الشعر والكتابة بنوع من البطركية أو الإلغائية وصراع الأجيال: كان محمد علي شمس الدين يقرأ تجاربنا بحبّ ولا يبخل بالنصيحة والنقد المحب والإشادة بأي لمحة جمالية في أصغر تجربة ناشئة. يحاورنا في ما نقرأ ونكتب ونشعر ونكابد، وينصفنا في تجارب قصيدة النثر أحياناً أكثر من أرباب هذه القصيدة وأساطينها ومنظّريها. يقول لنا إنّ الشعر يسمو على التصانيف كلها، بل هو «أقدم جروح الغيب»... في جلستنا الأخيرة للتحضير لكتاب يضم حواراً مشتركاً طويلاً أجريته معه ضمن فعاليات «دار الرافدين» السنة الماضية، قرأ محمد علي شمس الدين خمس قصائد جديدة أحسست فيها بوهج البدايات، بالرعشة الكهربائية التي تنتاب السامع عند المقطع الأول في «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» (1975): «عارياً كان يعدو على سترة الأرض/ والأرض تعلو على غارب الماء/ والماء يطفو على بقعة في الشتاء/ ناشراً لحمه للطيور الأبابيل تغدو خفافاً/ وتنقض ساديةً/ ثم تأوي إلى برجها في السماء». لكن الفتى الجنوبي أكثر من ذكر الموت في كل تلك القصائد. كانت كلمة الموت تحضر كشوكة بنفسجية في ذلك اللقاء الأخير. شوكة أدمتنا برحيل «شمس» حتى الثمالة في أيلول «فقد أخبرتني الطيور التي لا تطير سوى في ظنوني/ أنّ أيلول باقٍ/ وأنّ الخريف الجميل الطويل العليل/ دائم لا يزول».

ابن الشجن الكربلائيّ
هو ابن الشجن الكربلائي المتأتي من صوت الجد الحزين الذي نشأ في كنفه في قرية بيت ياحون في الجنوب اللبناني. محمد علي شمس الدين هو ابن أذان الفجر العميق وابن هذا الصوت بالذات، الشجن الذي امتزج عنده بدم الشعر، إلا أنه فرحه على حد سواء كما يقول في قصيدة «ورشة القتلة». النشأة الدينية والروحية الطقوسية لصاحب «غيم لأحلام الملك المخلوع»، فضلاً عن قراءاته في القرآن وفي كتب ابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، والشبلي والبسطامي، والتفسير الصوفي للقرآن للإمام جعفر الصادق، هيأت باكراً للحرارة التي ستسكن نتاج محمد علي شمس الدين بأسره، «لكن أشعار هؤلاء ضعيفة بالإجمال، وقوتهم الروحية موجودة في أحوالهم. استفدت من الأحوال، لكنني اخترت أن أكون الشاعر لا السالك أو الفقير»: عرف محمد علي شمس الدين منذ الديوان الأول «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» الذي أصدره عن «دار الآداب» في نهاية عام 1974 في عمر32 عاماً أنّ ما يصنعه هو الشعر وكان يشعر بإمكانية الطيران الشاسع عبر الشعر في كل الاتجاهات، وأن قصائد هذا الديوان اقتحامات جنونية لكل ما حوله. «هل قبل «قصائد مهربة...» حياتي تشبه شعري؟ كلّا قطعاً. كان لي صاحب أو اثنان، وبنت جميلة كالقمر قربنا، وكثير من حيوانات الدار، وكتب تراثية في مكتبة الجد، وكنا فقراء. لكني أُصبت بنوع من الأرق استمر طويلاً، وكتبت قبل عام 1970 المئات من النصوص التي مزقتها، لأني كرهتها»، يقول الفتى «ميم» في إحدى مقابلاته.
الجنوب اللبناني، المسمى جبل عامل تاريخياً، هو العصب الحار الحزين الإنشادي والملحمي الذي تمغنطت عليه دواوين محمد علي شمس الدين اللاحقة التي صدرت في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الاحتلال والمقاومة، ولا سيما في المجموعات الأولى التي نذكر منها: «غيم لأحلام الملك المخلوع» (1977)، و«أناديك يا ملكي وحبيبي» (1977)، و«الشوكة البنفسجية» (1981)، و«طيور إلى الشمس المرة» (1984) وليس انتهاء بـ «أميرال الطيور» (1992): في هذه النصوص التي كرّست صاحبها واحداً من «شعراء الجنوب» ما ينقل الجغرافيا من حيّز الموضوع إلى حيّز الخصوصية في الذات، «كأن الجنوب الذي يحملني أحمله. ما كتبت من القصائد عن آسيا وغرناطة واليأس من الوردة ومنازل النرد... يشتغل بعصب التكوين الجنوبي، هذا العصب مشغول من ريح وأحزان عميقة ورسم صورة لمخلّص طالما رسمت صورته من ديوان لديوان. ثمة دم وإنشاد في جميع ما أكتب». إلا أنه رغم جنوبيته الأصيلة، لا يُحتسب شعر محمد علي شمس الدين في خانة الوطنيات التي استهلكها الكثير من الشعراء، فشدّتهم إلى الأرض من ثقل الأيديولوجيا والمرحلية العابرة والشعارات الجوفاء: إنه شعر يمتلك أجنحة المغامرة، ومجازفة التخيل، وتلمّس سمة المجازفة التجريبية الاختبارية كأن يقوم في «شيرازيّات» بكتابة نص فوق نص حافظ الشيرازي: «ثمة جاذب روحي شدني إلى حافظ الشيرازي، أسميه اقترابه من «موطن الأسرار» من خلال «الحب». يقول: «بوسعي رؤية قلبك داخل صدرك الشفاف/ مثل زمردة تنبض في الماء». وقد قرأته واحتفظت بأثره البالغ في نفسي سبع سنوات بعد زيارتي لإيران ورؤيتي لتبرّك الناس بـ «فأل حافظ»، من دون أن أعمد لأي كتابة عنه. وقد حدث أن عانيت ألماً جسدياً أدخلني المستشفى واضطرني للتردد عليه دورياً لمدة ستة أشهر. خلال ذلك، انفجرت في نفسي «حالة» حافظ الشيرازي، فكتبت 75 قصيدة غزل عام 2004 تأسيساً على غزلياته، وهي قصائد تخصّني بمقدار ما تخص حافظ الشيرازي سواء بسواء. لم أترجم الشيرازي، بل كتبت ما يسمى النصّ على النصّ، أي قصائد على قصائد». في شعر محمد علي شمس الدين كما يقول المستشرق بيدرو مارتينث مونتابث قدرة مدهشة على الإيحاء والاستبطان (استيحاء التراث) وعلى الانشطار والغموض، واختلاط (ضبابية التصاميم) وعلى رسم المنظور الفني والتقاط أبعاد اللحظات: ظلّ شمس الدين يمتعنا بتلك اللعبة التي يأخذ فيها التخييل واستبطان التراث إلى مداها الأقصى حتى دواوينه الأخيرة، إذ نعثر مثلاً في «النازلون على الريح» (2013) على قصيدة بعنوان «يوم الأحد الواقع فيه صمتي» تشكل ربع الديوان مهداة إلى الغزالي في محنته، محنة الشك، نقرأ فيها «إن القصيدة معراج نحو الله»، وفيها يلعب الزمن دوره «سبعون من السنوات تساوي خمس دقائق من أيام حبيبي». كما أنها تنتهي «في زحمة سيري نحو الله».
تبدو قصيدة شمس الدين للوهلة الأولى موجهة لقارئ متسلّح بالمعرفة، ومؤهل لأن يصبح على تماس مع الطبقات الإيحائية للشعر، لكن لا نلبث أن نكتشف بعد قليل من التعمّق أنّها تصلح لكل صاحب خيال من الطفل وصولاً إلى عالِم الفيزياء، فالشعر عند صاحب «حلقات العزلة» يبدأ من حيث تنتهي المعارف والعلوم والفلسفة والتاريخ، بل هو أقرب إلى إكسير خاص أو برق يكشف ظلمات الوجود ثم يترك كل شيء لحاله. كما أن المتتبع لشعر شمس الدين يكتشف أن قصيدته قد انتقلت من الرؤية الحادة للمتناقضات والهجوم باللغة والإيقاع إلى مرحلة أقرب إلى الصمت الصوفي، وصَهر المتناقضات في ما يشبه الحال الملتبس للنص، كما في النشوة أو الغيبوبة، وهو ما نلمسه في القصائد الأخيرة مثل «دموع الحلاج». تترك قصيدة محمد علي شمس الدين في المتلقي تأثيراً مزدوجاً يتعلق بالتركيب العصبي والنفسي وبالقابلية للموسيقى، بمقدار تعلقه بالتركيب المعرفي للشعر. كما أن في شعر صاحب «أما آن للرقص أن ينتهي» علاقة حسية كثيفة وحرة مع الحب والأنثى. نرى مثلاً أنّ اسماً واحداً هو «ليلى» سيحمل أحوالاً متعددة: ففي قصيدة «وجه ليلى»، يتبين من النشيد الأخير أنّ قيساً (وهو الشاعر)، لم يحب ليلى بل شُبّه له، وأن القصة بكاملها أسطورة: «علّقتُ على باب الدنيا قلباً مطعونْ/ وصلبتُ جناح الطير على جذع الزيتون/ ونقشتُ على عنقي سيفاً/ وعلى هدبي سيفاً مسنون/ وشنقتُ الشمس بأعتابي/ وصفعت قفا القمر المفتون/ لا قيس أحبَّ ولا ليلى/ عرفت وجهاً للمجنون». وفي قصيدة أخرى بعنوان «خمسة أبواب للموسيقى» في ديوان «الغيوم التي في الضواحي»، نقرأ ما يلي: «والذي حيّر العقل حتى براه الجنون/ أن ليلى التي متّ في حبها ألف عامٍ/ تخونْ». كأنّ نساء القصائد هنّ نساء الخيال اللواتي يأتين من الواقع أحياناً، ولكن ليذهبن إلى الأسطورة. لم يتلوّن محمد علي شمس الدين في السياسة، وكانت وجهته في قصائده الأخيرة كقصائده الأولى: جنوباً جنوباً جنوباً.
الجنوب اللبناني هو العصب الحار الحزين الإنشادي والملحمي الذي تمغنطت عليه دواوينه

وحين كانت الطائرات تفري لحمنا العاري في شمس تموز، كانت كلمات محمد علي شمس الدين: «... يا أخوتي/ أنا الآن منكشف كالفضاء/ أطير هنا وهناك/ سابحاً في أعالي السماء/ جميلاً وحراً وممتلئاً بالعناقيد/ ودمي كالنبيذ يسيل على الأرض/ فيشربه شعب جلعاد/ كما يشرب السُم/ فيهوي صريعاً على وجهه/... يا أخوتي في شهر تموز/ من عام جرح وألفين بعد المسيح/ وسبعين مجزرة في القرى/ في طريق الإمام الذبيح/ سجلوا في دفاتركم ما يلي: /لقد أزف الوقت واكتملت كربلاء/ مثلما شاءها الأقوياء».. كلمات أشبه بالصاروخ الذي أصاب البارجة في قلب البحر. كما أن الشاعر المتوج بأهم الجوائز لم يتوان عن رفض جائزة مرموقة بعد اتفاقات التطبيع مع الكيان الغاصب: «الخوف من الأيديولوجيا جزء من الخوف من المعرفة الملتزمة. أهم ما أعرفه من نفسي هو أني حر، حر بالاختيار وحر بالتخلّي. وأنا في سلوكي وشعري أضم ثلاثة مستويات من معنى المقاومة: الأول الإقامة في الأرض. الثاني الهجرة من المكان للعودة إليه. الثالث: الإقامة في اللغة. تسأل: مع المقاومة؟ إن لم تكن مع المقاومة مع من تكون؟».
رحل محمد علي شمس الدين، رحلت الكلمة التي يجرحُ بها الشاعر جسد العالم ليعرف دواخلهُ وأسراره وما يختبئ فيه من المعاني، غادر الجبل الجنوبي موقعه، رحل الفتى الجميل في أيلول، رحل مع الطيور إلى الشمس المرّة: «تعبنا يا شهرزاد تعبنا/ وركضنا طويلاً خلف أعمارنا/ حتى انحدرت دمعتان من عنق الحصان/ فماذا لنا/ سوى أن نكتشف ثانيةً/ أن هذا الخط الذي يبدأ في طرف الكف/ لا ينتهي في أطراف الأصابع/ وأننا شريدان مثل خطّي سكة الحديد في الزمان».