ما زالت تتوالى الصور الرائعة التي التقطها التسلكوب الفضائي «جيمس ويب». التصوير الفضائي (Space Photography أو Astrophotography) مزج دقيق وخليط بين الفنّ والعلم، وهي علاقة قلّما نلاحظها. فالنظرة السائدة في الثقافة العامة، تفرض على شتّى تقنيات التعبير الذاتي الوجداني رفضاً شكليّاً للتقدم العلميّ، بحجّة أنه المعرقل الأوّل لبلورة الأحاسيس والمشاعر بصدق وواقعيّة ومشرّع أساسي لما يسمّى الاغتراب. تُرجّح العديد من المصادر التاريخية والعلمية، بداية ما يُسمّى بالتصوير الفضائي في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، وقد تمحورت هذه المحاولات كلها حول القمر، الجرم الفضائي الوحيد الممكن «التفاعل معه»، بحيث أن الشمس والنّظر لا تربطهما ألفةٌ مطلوبة. لكن الأكيد أن المحاولات الحقيقيّة الأولى تبلورت في أواخر القرن عينه، ولنا من تلك الحقبة دلائل رائعة ومحاولة تشدّ المُكتشف الباحث إلى التعمّق أكثر في هذه القفزة الخيالية التي وصل إليها التصوير الفضائي بسرعة قياسيّة. ومن أولى الصور التي نُشرت في هذه الحقبة، واحدة التُقطتْ للمذنّب الكبير The Great Comet عام 1882. وفي إحدى مقالاته في جريدة La Nature الصادرة عام 1883، يصف أحد العلماء الحدث، قائلاً: «لقد رأيتُ هذا المذنّب بالعين المجرّدة لشدّة وضوحه ولمعانه، وبقي على هذه الحال حتى 28 من شهر شباط. لقد رأيته بعينيّ في مساء ذلك اليوم. لكن بسبب الطقس الغائم من جهة، وضوء القمر من جهة أخرى، لم أستطع ملاحظته من قبل لما يقرب من عشرة أيام. ولحسن الحظّ، وجدته ذاك المساء بصعوبة بسيطة ومن دون مساعدة أجهزتي وآلاتي البصريّة وتلسكوباتي». ما لم يكن في الحسبان حينها، أن تتحوّل هذه «التقنية» العلميّة البحتة، إلى فنّ تصويري صرف، يأخذ الجمال إلى بُعد جديد، بُعد الواقع غير الملموس. هكذا تعرّف الإنسان إلى مكوّنات فضائيّة في غاية الخيال والجمال والتعقيد الفكري العلمي الشيّق، كالسديم أو ما يُعرف بالـNebula، والنجوم الخافتة (Dim Stars) والمجرّات والشهب.
لم يكن الناس المندهشون بالإمكانات العلمية للتلسكوبات والصواريخ قادرين على تخيّل حلّة الأرض من الفضاء. والفعلُ الأخير يشبه محاولة تخيّل الإنسان لوجهه، وربما له كلّه، من منظار آخر خارج مداه النظري ومرتكزاً على نظرة الآخر له. وما ساهم جلياً في هذا التقدم، هو الحرب العالمية الثانية. بعدما استطاع الأميركيون أسر صواريخ V-2 النازيّة الصّنع، التي كانت تحتمل الارتفاع عن الأرض لمسافة 80 كلم في بداية تصنيعها، وبعد العمل الدؤوب على تطوير بنية هذه الصواريخ، استطاعت الأخيرة الوصول لارتفاع 150 كلم في 24 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1946، والتقاط أوّل صورة للأرض من الفضاء، وأوّل صورة من الفضاء في الوقت عينه. حينها عنونت مجلّة «ناشيونال جيوغرافيك»: «كيف تبدو الأرض لزوّار غرباء آتين من كواكب أخرى من بعيد بسفنه الفضائيّة الطّائرة». بدأ السّباق نحو الفضاء بين الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد السّوفياتي حينها، ومن الأهداف الكبرى الطويلة الأمد التي وضعها الأميركيون للتّغلب على السوفيات وإخراجهم تماماً من اللعبة بعدما نجح هؤلاء في إتمام أوّل دورة للإنسان حول الأرض وتحجيم المساعي الأميركيّة كلّها، كانت الوصول للقمر، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ، الهبوط عليه.
وكانت رحلة «أبولو 8» متوجهة للقمر وعلى متنها ثلاثة روّاد فضاء لا أكثر، وهذا بديهي، فالرحلة لم تكن متوجّهةً للهبوط على القمر، بل لاستكشاف سطحه لتعيين مواقع صالحة لرحلات لاحقةٍ تنوي الناسا (وكالة الفضاء الأميركيّة التّابعة مباشرة للحكومة) إرسالها في أسرع وقتٍ للهبوط واحتلال الجُرمْ الصّديق. وخلال إتمام دورتهم الرابعة حول القمر، فوجئ الرّواد بجرم أزرق لم يميّزوا بدايةً أنه كوكبهم الأمّ، لكن عندما اكتشف أحدهم، وهو جايمس لوفل، أنّهم أمام الأرض، لم يتمكّن من حبس اندهاشه، فنادى زميله ويليام أندرز الذي لم يكن بحوزته إلّا كاميرا بسيطة ولحسن الحظّ، ملوّنة، فالتقط الصورة الشّهيرة للأرض حينها.
عرفت الصورة عندها بـ «شروق الأرض» Earthrise وملأت المجلات والصحف والنشرات الإخبارية ولوحات الإعلانات لأسابيع. حينها علّق أندرز قائلاً: «أتينا كل هذه المسافة الطويلة لاكتشاف القمر، لكن الأهمّ من ذلك كلّه، أننا اكتشفنا الأرض». في تلسكوب «جيمس ويب»، تتألّف المرآة الأساسيّة من 18 مرآةً مسدّسةً يبلغ طول قُطر كلّ واحدةٍ 1.32 متر. تُصنع من «البيريليوم» Beryllium، وهو معدنٌ خفيف الوزن، قويّ في الوقتِ نفسه ومتين مقارنةً بوزنه، ما يسهّل عمليّة إطلاق المنظار في الفضاء وتحمّل الضغط في آن. أضف إلى ذلك أن هذا النوع من المعادن، قادرٌ على المحافظة على هيئته المصنوعة على اختلاف درجات الحرارة، وهذا ما يزيل العديد من العقبات التي يمكن أن يواجهها التلسكوب أثناء رحلته. لا تكتفي الشركة المصنعة بالبيريليوم، بل تغطي هذه المرايا بقشرة ذهب، تعطي المرآة الأساسيّة لونها، وهي تسمح لها بسحب الموجات الضّوئيّة تحت الحمراء التي يركز عليها التلسكوب لفكِ شيفرة الفضاء الشاسع وجماله المستور. هيكليّة المنظار تتأثّر مباشرة بقدرة السفن الفضائية والصواريخ على التحمل والحمل. لذلك، ليس كلّ تصميم علميّ واقعياً بل على الفكر الإبداعيّ أن ينصاع إلى القدرات المادّية حينها. لذلك، يُلتزم بشكل خليّة النحل، لأنّ هذا التصميم يساعد المرايا المسدّسة على الالتصاق بعضها ببعض كلّياً، ما يمنع نشوء فراغات بينها. أما الشكل المسدّس غير المألوف في التصنيع، فيعود إلى التناظر السداسي الذي يخلقه، فالمربّعات ترسل كمية هائلة من الضوء المنعكس خارج المساحة المركزيّة هدراً، لذلك تمّ اللجوء للشكل الأقرب للدوائر الذي يسمح بتركيز الضوء على الوسط مسهّلاً عملية معالجته من خلال أقرب الهندسات القابلة للتطبيق ألا وهي المسدّسات.
لم يكن في الحسبان أن تتحوّل هذه «التقنية» العلميّة إلى فنّ تصويري صرف


إن تجميد إمكانات تلسكوب «جيمس ويب» على التقاط صور فضائيّة، وإن كانت مذهلة، ليس واقعاً مرغوباً به. فالناسا أوضحت المهام المتشعّبة المترتّبة على المنظار وقدراته الهائلة. فقد قسّمت إمكاناته إلى أربعة حقول شاسعة، تسعى من خلاله إلى تثبيت موطئ لقدمها فيها قبل أي منافس آخر. افتتحت ناسا بيانها بعنوان شيّق: «نهاية العصور المظلمة». هنا تؤكّد الوكالة على أن المنظار «آلة زمن»، بحيث أن الأشعّة ما تحت الحمراء التي يتلقّاها التلسكوب تجسّد ما يقارب 13.5 مليار سنة من عمر الكون، ما يسمح لنا باكتشاف هيئات النجوم والمجرّات وسواها من الأجرام منذ بداية الخلق. في الشق العلميّ، يبيّن البيان، الدور الأساسي الذي سيلعبه المنظار بإمكاناته الحابسة للضوء في مقارنة المجرات الأولى و«شقيقاتها» اليوم، في محاولةٍ دائمةٍ لفهم تشكّل هذه الأخيرة وتطوّرها عبر الأزمنة. ومن ثمّ تتبلور أحد العراقيل المستورة التي سيزيلها تلسكوب «جيمس الويب». فالعديد من المناظير الفضائيّة الضخمة والشهيرة كمنظار «هابل»، لا يمكنها اختراق موجات وأساطيل غيوم الغبار التي تخفي فيها ولادة نجمة أو تشكّل نظام شمسي بأكمله. في النهاية، سيساعد التلسكوب العلماء على فهم الكواكب الخارجة عن نطاق الشموس، ما يمهّد الأرضية علميّاً وتقنيّاً لاكتشاف حقيقة وجود حياة خارج كوكبنا الأرضي.
ما يكشفه لنا العِلم، من خلال التطور المدهش الذي تجسّد في التصوير الفضائي، هو أنّه ليسَ عدوّ الفنّ ولا نافياً للإنسانيّة. إن الثورة التكنولوجية تبقى حاميةً للإنسان تحت رعايته وإرادته. ولا يمكن تصوّر العالم والكون من دون إنسان، وكذلك لا يمكن للتكنولوجيا أن تكون فقط أداة نصل منها إلى رغباتنا وحاجاتنا المتخيّلة المُصمّمة، بل هي كيان بحدّ ذاته، تُعطي علاقتها بالعنصر البشري طابع الإدراك أكثر من مساعي الفهم والتسلّط. إن التكنولوجيا والعلم، ليسا الوجه الآخر للعملة، بل اللمعة الكاسية لوجهنا من العالم.