قبل البارحة، بثلاثة أعوام تقريباً، كان التلفاز بمثابة شريك حميمٍ استقبله كل من جاهر بانتمائه إلى عالم المطبخ و«الكويزين» (cuisine) بحفاوة. الحق يُقال ودع الأرشيف يشهد: إنّ التلفاز يومها كان مخلصاً ووفياً لمتابعه وسخياً عليه. لم يبخل على مشاهديه بشيء ولم يخفِ عنهم أي وصفة. حياة هنيئة جمعت الطرفين لمدة زمنية غير قليلة. قصص سعيدة تحمل هذا الطابع دائماً ما تجد لنفسها إمكانية التحقق في حيّز الشاشة. هذا شأن «تلفزيوني» بحت، مسألة داخلية، تعني كلا الطرفين ولا مجال لنا للإسراف في شرح العلاقة هنا. لكن، وبدواعي الفضول والمزايدة، سنكتفي بالتعقيب على هذا الموضوع إيجازاً ولو أتى موجز التعليق استطراداً، للتدليل فقط على خدعة انطلت ولكشف حماقة حدثت، ومن بعدها سنعود إلى مرمى حديثنا.
الفيديو حمل عنوان «شاهد الشيف ريشار يعلن اسلامه»

إن الرابط المتين بين المتفرّج والتلفاز الذي أوحى بعلاقة مستقرّة منغلقة فيها من الاكتفاء حد الشبع، لم تكن ضمنيّاً كما بدت عليه، بل شهد أحد الطرفين، وهو المشاهد، طعناً خبيثاً، جعلهُ طبخة جاهزة للالتهام وكأنه وجبة سريعة خالصة. نحتاج إلى كوب ماء باردة كبيرة، وملعقة تحمل مقداراً طفيفاً من السكر، ثم علينا بخلط المياه مع السكر فاحتسائها. هذا لتهدئة الأعصاب وليعمّ الهدوء، ومن بعدها عليكَ بجهد ذهني بسيط يقوم على استذكار لوحة مارسيل دوشان الشهيرة والتهام عبرتها. عملية الطبخ المعروضة على التلفاز تشبه المفهوم الذي اتّسمت به تلك اللوحة. إن غليون دوشان في اللوحة لا يدخن، إذا قمت بإشعاله بغية تدخينه، فستحترق اللوحة، ومن الممكن أن تحترق معها. وعليه، إنها وكما هو واضح، تصوير للغليون وليست غليوناً. الطبخ المصوّر المعروض على التلفاز، تسري عليه المعادلة نفسها أيضاً: يعرف التلفاز أنّ الأكل لا يصير بالمشاهدة بل بالمضغ، والعلك والشم. بحركة لولبية، عنيفة، تقوم بها الأسنان والأضراس طحناً وجرفاً، وليس بخطوط مستقيمة وأفقية ترسمها العين تناغماً واشتهاءً، لذلك ما كان يستهلكه المشاهد هو برنامجاً معروضاً، وليس طعاماً، والأهم أن التلفاز على علم مسبق باستحالة تحضير الأطباق المعدّة المعروضة، لأن ما تحصل عليه ستموت، تلقائياً، حاجتك له عقب استهلاكه. وبالتالي، إن إمكانية تحقيق الطعام المعدّ يعني فناء البرنامج. إن الشيء الوحيد الذي تريده، هو الشيء الوحيد الذي لن تمنح إياه.
نعود إلى حديثنا.
آنذاك، كانت محطات التلفزة تتناطح مع بعضها على استقطاب الطاهي الأكثر موهبة في صناعة الأطباق وتحضير الموائد، والإتيان بمن هو الأكثر جدارة وبراعة في استعماله غير المألوف لعناصر تبدو متنافرة، وإسباغه على الطعام مكونات غريبة ما يخلق دهشة تدمغ في قلب المتفرج، فيكون الطاهي، فنان التحف الفنية، نجم المحطة الساطع. من بين الذين لمعت أسماؤهم في ذلك الوسط، كان الشيف أنطوان في الإذاعة الوطنية، وهو أشهر من أن يعرّف، فيما كان هناك مثلاً، على قناة «الجديد»، الشيف ريشار.
بعد ثلاث سنوات من اليوم، سيُقال عن تلك المرحلة، بأنها كانت واحدة من الفترات الذهبية التي مرّ بها لبنان. سيُقال أيضاً، إنهم، أي الطباخين، كانوا الجميلة، والسياسيين كانوا وحوشاً (وهم ليسوا كذلك بل أكثر من ذلك). الوحش يثرثر على مدار الساعة، كما أنّه الحديث، على مدار الساعة. لكن ماذا يُقال عن الجميلة اليوم؟ لقد مرّ حوالى سنتين تقريباً على اختفاء برامج الطهو ووجوه الطهاة عن الشاشة، وعلى ما يبدو أن لا أحد يشتاق إليهم. من المؤكد أن الانهيار قد فرض حمية غذائية قاسية جاءت عنوة، أدت في بعض المنازل، إلى تقليص مساحة المطبخ والاكتفاء بالضروري منه، أو التمني التخلّص منه لو باستطاعة المعدة أن تكون بكماء. هذا الانهيار اللعين فرض أيضاً، قواعد لسانية جديدة، حيث كل خطاب يخرج عن سياق التقشف في الطعام وإعداده يجابه قائله، على العموم، بطرد متعسفٍ مجحف. في أوقات كهذه، ماذا يفعل الطاهي الذي اعتاد على نشر وصفاته السرية يا ترى؟ هل يعاني من بطالة؟ هل ينتظر الفرج، غودو، الله؟ وهل قمنا حقاً، بطرد الطاهي من منازلنا، وليس فقط طهوه؟
في حدث بدا جليلاً، وهو ليس الأول من نوعه إذ ما يلبث أن يختفي حتى يعود، يعني أنه متتابع ومتكرر، فهو ليس بعرَضي بل جوهري حتى إنه يعدو كظاهرة عربية أصيلة تعتزّ بأصالتها، ظهر علينا قبل أيام عنوان فتّاك، تعشقه العيون العربية، يخص الطاهي ريشار، جاء على خلفية فيديو انتشر له على وسائل التواصل الاجتماعي. الطاهي ريشار ليس طاهياً هذه المرة، بل آكل لطبخةٍ روحية النزعة والأصل، كأنه أراد استفتاح نصف عمره المتبقي بمقولة «ليس في الخبز وحده يحيا الإنسان». ظهر ريشار في الفيديو في حالة تشبه المتصوف الذي بلغ أوج الحكمة، خاشعاً تكاد تشعر بأنه يلامس بتأمله الداخلي قعر أعماقه. كان ينصت بسكون وخفّة إلى حديث قراَني أو محاججة بلاغية دينية يتلوها شيخ يطالعه فيها عن مفهوم الله وماهية الدين الإسلامي، حتى يتراءى للمشاهد أنّ الطاهي، علّق كافة حواسه وصقلها لتصب بكامل طاقاتها على حاسة السمع. وفي البدء، بدا هذا الرأي مصيباً كون الطاهي، بعد إصغائه المعمّق للشيخ، قد أشهر إسلامه. الفيديو/ الحدث حمل عنوان: «شاهد الشيف ريشار يعلن إسلامه». وبالطبع: تكاثرت التعليقات وتعدّدت الآراء. منها من هنّأ الشيف على ثوابه، بينما آخرون رأوا في سلوكه رياءً. والحال، أن كل الاستجابات الذي أثارها الفيديو بدّدها خبر عاجل أتى في اليوم التالي، محا معه كل حماسة الأمس في التفاعل مع التحوّل الروحاني المستحدث للطاهي، حيث ورد على لسانه في تصريح صحافي لقناة «الجديد»، نفياً لاعتناقه الإسلام وأن تلاوته للشهادتين كانت من باب الملاطفة واحتراماً للشيخ ولموقعه. إن الجلسة التي جمعت ريشار مع الشيخ فيها من الحرمة والخلوة ما يمنع عليهما تقبل وجود طرفٍ ثالث، فلم الحاجة إلى مصوّر وكاميرا وما الغاية من الشريط المصوّر؟ إذا أشهر ريشار إسلامه، فهنيئاً له، وإذا لم يفعلها، فله منّا أطيب التمنيات، على أي حال، من يأبه بخبرٍ كهذا، وما صلته بالواقع؟ فيما تلتهب النزعات الطائفية في هذا الصيف الحار لهيباً ينتظر الفرصة المؤاتية ليتمدد بكامل لهيبه على ملعب هذا الواقع، يتضح قصورنا على فهم مسائل ارتأينا بأنها بدائية وأننا حفظناها غيباً، كتفسيرنا القائل بأن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، لنضيف عليها أيضاً وسريعاً، فصل الدين عن الشاشة، وعن الطبّاخ ومطبخه. هناك وصفات تخلخل الطّبخة ولا تثريها، وهي حكمة استقيناها من الطباخ وحرفيته.
يبقى أن فيديو «شاهد الشيف ريشار يعلن إسلامه» إذا ما أفصح عن مسألة جدية، فتكمن في عرضه للعنوان نفسه، كما جاء تصريحاً أو نطقاً، حيث اللغة تعانق مضمونها وتفصح عنه. ذلك أن العين، التي تفعل فعل المشاهدة، يولى لها الأولوية في المحاكاة والقصد، ويُراد لها أن تكون الاختزال الحصري لكل المَلكات الأخرى التي يتحلّى بها المرء. العين هنا، لا تخاطَب في الطبق المطبوخ فحسب، بل أيضاً في كلام يحمل طابعاً مقدساً يكاد يكون طقساً سرياً يفقد بريقه إذا ما شوهد. كما يُرجى من صاحب العين أن يفعّلها بممارسة حصيفة، جذرية، ليكون الناظر متلصّصاً. وعلى هذا الأساس، يستعمل الفعل ويعرب، فالفعل إذا أتى بصيغة الأمر، مثل «شاهِد»، يجد فيه المأمور شيئاً من المتعة الناجمة عن انتهاك المحرّم، فيدغدغ المكبوت ويثير شهواته. والمكبوت والمشتهي والمأمور، سمات بادية في ملامح الفرد الطائفي السائل في الجماعة التي تشبهه، حيثما يتلصّص عليه، وعلى أخباره، مجتمعه المكبوت والمتلصص. على أن البوح الإضافي الذي يفصح عنه فيديو الطاهي ريشار، كائن في تعلقنا الرمزي بالطبخ، كسلوك اعتباطي وفوضوي يقوم على مزج الأشياء وخلطها، وإدماننا على إعادة الطبخة مراراً وتكراراً وفي المجالات كافة، في الطنجرة نفسها والفرن نفسه. ولكن الفارق الوحيد هذه المرة كان شكلياً، بعدما انقلبت الأدوار وتبدلت، كأن الشخصيات تقمصت بعضها البعض في سياق يشبه انتقاماً وقع بالصدفة، بلا تعمدٍ، وبدون فاعلٍ. فلما كانت ثقة المشاهد مطعونة، ويتعامل مع حضوره كلقمة سائغة من السهل الانقضاض عليها وأكلها، سرعان ما قرر المشاهد، أن يحذو حذو ريشار بعدما شاهده في الفيديو، ليعلن هذه المرة، طبخه. هكذا، إن التحوّل الذي أصاب الطاهي لم يكن ميتافيزيقي الطابع، ديني الهوية بل تحول طارئة عن المهنة وصاحبها: من طاهٍ إلى «مطهو» أي من طابخِ إلى مطبوخ، أو باختصار، من فاعل إلى مفعول به.
في زمن الأزمات ينشط مطبخ الأخبار حدّ التخوم


إذا كانت موائد الطاهي ريشار وغيره يستحيل إنجازها، فإنّ الأخبار التي تصلنا يومياً ويجعلنا أثرها نشطّ في ممارساتنا اليومية، ما هي سوى طهوٍ رديء يرمى، في أحسن الأحوال، من النافذة عندما كانت القمامة تستكين في شوارع بيروت، إذ هي غير صالحة للنشر حتى في زاوية «أسرار الآلهة» التي كانت رائجة يوماً في ماضي الصحف. ولأن طبخ الأخبار يتطلب، بدوره، درجة حرارة معينة، حيث كلما زاد استواؤها، طاب طعمها فكثر الطلب عليها، يغدو الخبر المطبوخ الطبق اليومي الأساسي ليومياتنا. بيد أن كاتبه غافل، يجهل قوّة خبره وقدرته على تحويل الواقع إلى رواية لها مذاق أكثر مرارة منه وحدّة، فتبتلعه الأحداث ويصبح بنفسه شخصية داخل الرواية، في عالم ديستوبي ينسجه تهويمه وخياله. على هذا النحو، يعدو طابخ الخبر في بحث محموم عن الأحداث الساخنة، تحبطه فكرة أنّ الكرة الأرضية لا تجلس على كرة من نار، وهو إذا لم يجد دفء الحرارة التي يرجاها، يعمد إلى إشعال الحطب ليوقد حيوات الناس وقصصهم فيها. على الأرجح، سيكون المشتبه به الأول عند نشوب الحرب العالمية الثالثة.
في زمن الأزمات ينشط مطبخ الأخبار حدّ التخوم. يختفي الطباخون باختفاء مشاهديهم. تختفي المشاهدة بسبب فقدان السلع أو بسبب الكلفة الباهظة للمواد الغذائية. كما يشتد، في أزمنة جائعة كهذه، الحنين إلى الله، والتقرّب منه. في خضم هذا الاضمحلال، والتلاشي، يظهر جوع من نوع آخر. جوع ينخر وجود المرء ويُستعصى إشباعه، هو ما يجعل من طابخ الخبر آكله.