إذا كان التاريخ ثقيلاً على الأجيال الحالية، فإنّ المستقبل أثقل بكثير. ولو لم تكن الذاكرة خطيرة على حاملي رواسبها، لما كان آخرون يحاولون تمييعها والتشويش عليها، وعلى هذا النحو هناك من يقف وراء هذا التشويش وتوجيه الأنظار عنه بشتى الطرق، متبّعاً الأسلوب الناعم المبني على دغدغة المشاعر. في هذا السياق، كتب الأكاديمي وأستاذ علم الاجتماع في جامعة الجزائر نور الدين بكيس، على صفحته الرسمية على فايسبوك، قائلاً: «ما وراء زيارة ماكرون لـ«ديسكو مغرب»؟ لا شكّ في أنّ هذه الزيارة تؤكد أنّ الفن والترفيه وسيلة جيدة للاستغلال السياسي والتوظيف العاطفي للجماهير. من جهة أخرى، يؤكد الواقع أنّ مشاهير الفن والرياضة والتفاهة والجماهير التي تتابعهم مجرد وسائل وأدوات قابلة للاستغلال والتوظيف. لذلك، يجب تركيز النقاش على من يصنعون ويستغلّون هؤلاء النجوم بعيداً عن الأضواء، لأنّ العالم لا يُدار من قبل التافهين، بل تديره نخبة قليلة من القادة الفاعلين الذين ليس لديهم وقت لسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام. فهم منشغلون بتصميم حاضر ومستقبل الشعوب. والمطلوب من كل المجتمعات، إنتاج قادة بمستوى طموحاتهم من داخل مؤسسات الدولة ومن خارجها. والمعيار هنا لا علاقة له بتعلّق الجماهير ومتابعتها، لأنّها سلطة صورية تفتقد إلى أدوات الحكم والنفوذ. فهل الجزائريون المنزعجون اليوم من زيارة ماكرون لـ«ديسكو مغرب»، مؤهّلون ومستعدّون لإنتاج هذا النوع من القيادات؟».
إن مجرد قراءة بسيطة لما كتبه بكيس بخصوص هذا الموضوع، يؤدي بنا إلى استنتاج جوهري، هو: كيف استطاع مبرمجو زيارة ماكرون للجزائر أن يصطادوا الجماهير الجزائرية بنوع غنائي كان في سنوات التسعينيات، أو ما يُعرف بالعشرية السوداء الوسيلة الوحيدة للوقوف في وجه الإرهاب الدموي، الذي لم يسلم من أيادي غدره الشاب حسني الأب الروحي لموسيقى الراي؟ وهكذا أيضاً تم تسويق التفاهة من قلب مدينة وهران عبر وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تناقلت الصور والفيديوهات على نطاق واسع، إذ حصد فيديو ماكرون مع صاحب الديسكو بوعلام بن هوا (68 عاماً) في أقل من 24 ساعة، أكثر من 15 ألف مشاهدة على قناة اليوتيوب. ولو قارنّا ذلك بفيديوهات عن باقي محطات الزيارة لجاء الفارق كبيراً جداً.
من هذا المنظور، فإن التفاهة باتت صناعة حقيقية تُوظّف في السياسة بطرق تضع تاريخ ومستقبل الشعوب في سلّة المهملات وفي البريد غير المرغوب فيه (spam) كي لا يظهر إلى العلن. وعلى هذا الأساس، تم اختزال العلاقات الفرنسية الجزائرية في شقّها الثقافي على الأقل مثلاً في «ديسكو مغرب»، ضاربة المعنى في هاوية السطحية والضحالة والسماجة حسب رواد مواقع التواصل.
الوجه الآخر لاستغلال «نظام التفاهة» هو الاستعانة بشخصية مشهورة متمثّلة في الفرنسي ذي الأصول الجزائرية دي. جي سنيك في تحضير الأرضية عبر إطلاق ألبوم من «ديسكو مغرب» حقّق رواجاً كبيراً، قبل أن يتوجه إليه ماكرون برسالة مع بوعلام بن هوا الذي حاورته وكالة الأنباء الفرنسية بالمناسبة. ما يعني أن لا شيء عفوياً أو عبثياً في كل ما حدث، وإنما صناعة التفاهة باتت نظاماً عالمياً جديداً يمكن القول إنّه أصبح بديلاً عن الأنظمة الكولونيالية على حد تعبير العديد من المتابعين.
إن الكتابة عن «ديسكو مغرب» ليست إنكاراً للطابع الغنائي «الراي» الذي يستمع إليه كثُرٌ ممن يعشقون حسني ونصرو والزهوانية وغيرهم من الفنانين الذين صنعوا مجد هذا النوع، وإنما محاولة فقط لتبيان كيف غلبت الثقافة الاستهلاكية وجعلت المجتمعات تتجه أكثر فأكثر للعرض والاستعراض والتسويق بشتى أشكاله، في غفلة مقلقة للجماهير غير الآبهة لمصيرها، فلا يهمها سوى لحظة التسلية والترفيه بعيداً عن القضايا المهمة. الآن بات مفهوم المثقف والمناضل نادراً، ليس له وزن أمام التافه السطحي الفاقد لأي أفق سياسي واهتمام إنساني أو خلفية إيديولوجية ما. إننا ببساطة أمام إنسان الفراغ العابث بكل شيء في سبيل التسلية والفرجة الزائفة والزائلة.
زيارة الديسكو غطّت على مناقشة تقديم السلطات الفرنسية اعتذاراً رسمياً عن جرائمها الاستعمارية
بالعودة إلى زيارة ماكرون للجزائر، التي خطفت محطتها بـ«ديسكو مغرب» الأضواء، تجدر الإشارة إلى الجدل الذي أحدثته في أوساط المثقفين وحتى رواد مواقع التواصل الاجتماعي باختلافهم وتنوّعهم، إذ لا تزال ردود أفعالهم متواصلة ومتناقلة عبر الحسابات الشخصية والصفحات والمنصات، فكتب الروائي سعيد بوطاجين عبر صفحته على فايسبوك: «هذا هو الواقع. يختزلون المدينة أو البلد في ديسكو. لم تعجبهم المتاحف الوطنية ومتحف المجاهد ومغارة سرفانيس في العاصمة ومأوى ابن خلدون في فرندة، وبيت هواري بومدين في قالمة، ومسجد ابن باديس في وسط قسنطينة. هناك أيضاً أحمد وهبي وبلاوي الهواري في وهران. هل الراي هو قدرنا؟».
هكذا عبّر بوطاجين عن رفضه لحصر تاريخ وهران ــــ ثاني أكبر مدن الجزائر بعد العاصمة ــــ في ديسكو، مذكّراً ببعض المواقع والشخصيات التي كان بالإمكان الوقوف عندها، لكن بدورنا نتساءل: هل كان مثلاً وقوف ماكرون في متحف المجاهد ليصنع هذا «البوز»؟ الأكيد لا، وهل كانت زيارة مأوى ابن خلدون لتؤثر في الجماهير كما لامست صورة كاسيت حسني مشاعر الجماهير؟ الأكيد أيضاً لا. إذن ضروري أن نفهم أن برمجة هذه اللقاءات تقوم على دراسات جماهيرية عميقة لا ارتجالية، إنها صناعة يقف وراءها مختصون أو كما قال البروفيسور بكيس «القادة الفاعلون الذين ليس لديهم وقت لسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام. فهم منشغلون بتصميم حاضر ومستقبل الشعوب».