أوّل ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المتتبع لمؤلّفات فاطمة شرف الدين (1966): «من أين تأتي الكاتبة بأفكار قصصها؟». السؤال ليس عبثياً، وسيكون أكثر إلحاحاً حين تبلغ تجربتها في أدب الطفل عامها العاشر هذه السنة، أنجزت خلالها أكثر من مئة كتاب للأطفال في التأليف والترجمة. يركّز كاتب الأطفال المعروف ليو ليونّي في هذا السؤال: «من أين يأتي كاتب أدب الطفل بأفكاره؟». قد يبدو الأمر سهلاً لبعضهم، خصوصاً في أدب الطفل، لكن ليوني وصف بلورة هذه الأفكار والشخصيات داخل قصة، بما يشبه لعبة الشطرنج، نظراً إلى ما يتطلّبه الكاتب من منطق كأداة لحبكة الأحداث.
حين خاضت شرف الدين تجربة الكتابة قبل عشر سنوات، لم تكن هذه خطوتها الأولى في عالم الطفل. القاصّة اللبنانية حازت «إجازة تربية مبكرة» من «الجامعة اللبنانية الأميركية»، و«ماجستير أدب عربي حديث» من «جامعة أوهايو»، إلى جوار تعليمها الأطفال بين 1996 و1998. ورغم أنها لم تكن قد حسمت أمرها بعد، إلا أنّ بداياتها حملت تلميحات قد تفضي إلى تجربتها في النهاية، خصوصاً أن إحساساً بغياب أداة التعبير المناسبة رافقها حينها. «جربتُ الرسم والنحت، لأني أحسست بالحاجة إلى أدوات للتعبير عني». عام 2004، اهتدت فاطمة إلى أداتها الأساسية التي ستسمرّ بها حتى اليوم: أدب الطفل. أتى الخيار بداية من حاجتها الشخصية، قبل أن تتحوّل إلى مشروع أوسع. «لم تكن القصة العربية تناسب ولديّ»، تقول. عندما كانت تزور لبنان، لم تجد كتباً بالعربية تناسب ولديها لناحية المواضيع أو حتى الاهتمام بالرسوم. هكذا، كتبت للمرّة الأولى بالعربية المحكية، لعمر الست سنوات، فاعتبرته دور النشر تعدياً على اللغة العربية، لذلك اضطرت إلى «ترجمته» إلى العربية. الترجمة مصطلح ما زالت تستخدمه حتى اليوم «بسبب الفارق بين لغة الطفل الأم أي العامية، والعربية الفصحى». لكنها لجأت في قصصها إلى حلّ وسطي، خصوصاً في قصص الأعمار بين 3 و6 سنوات. هكذا، وظّفت تعابير باللغة الفصحى تستخدم بالعامية أيضاً، فنقرأ كلمات مثل «نط» أو «لكزته». لكن اللغة بدأت تختلف كلما توجهت إلى عمر أكبر.

ترجمة قصص للأطفال من
ثقافات وبلدان مختلفة

هاجس التفاعل مع الأطفال، غيّب المسافة بين ثقل العربية الفصحى وسلاستها في قصصها، تماماً كما امّحت المسافة بين الكاتبة والطفل. على مدى السنوات العشر، صارت شرف الدين بطلة هؤلاء الأطفال بمختلف أعمارهم، وتحوّلت شخصيات كتبها إلى مرآة لهم. منذ البداية، أعلنت عن اجتيازها الوعظ الأخلاقي الفارغ لأدب الطفل العربي الذي ينضمّ إلى السلطات الأخرى التي تحاصره كالسلطة البطريركية والعائلية والمدرسية. تحضر المناخات الطفولية بشفافية في نصوصها، وهي مزيج بين هواجس الأطفال البسيطة، وأفكارهم، ومخاوفهم، وبين قضايا معاصرة ترافق الطفل الحديث اليوم، وتتماهى مع أفكار الكاتبة وتجربتها الشخصية. عندما كتبت قصة «لتامر عالم خاص» (يوكي برس_ حائز «جائزة مؤسسة الفكر العربي»)، أصرّت على مقابلة طفل مصاب بالتوحّد، كي تنخرط في عالمه. تحضر الثيمات التقليدية في أدب الأطفال كالحيوان والنبات والعلاقات، لكنها لن تنجو من المواضيع السياسية، والاجتماعية والسيكولوجية والدينية والحروب كما في «العمة زيون وشجرة الزيتون»، و«في مدينتي حرب»، وقضايا المرأة في «فاتن» و«البنت الصغيرة التي...». هذا ما فعلته في «الخروف الراقص» الخائف من الذبح، من دون التطرّق إلى فكرة الأعياد الدينية نفسها.
تُرجمت «في مدينتي حرب» إلى لغات عدّة، ولاقت ردود فعل متفاوتة. القصة التي منعت في فرانكفورت لأنها «ضد الصهيونية»، أهدتها شرف الدين إلى أطفال العراق وفلسطين. وإن كانت هذه الكتب ابنة المحيط العربي وهواجس أطفاله، إلا أنها لامست أطفال أوروبا من خلال قالب تجريدي. حين زارت المدارس في بروكسيل للحديث عن «في مدينتي حرب»، استغرب «الأطفال كيف أنني صغيرة، لأن الحروب العالمية مرتبطة في رأسهم بالأجداد». حافظت شرف الدين على علاقة مباشرة مع الأطفال، ورافقتهم في المدارس والمعارض والمستشفيات من خلال جلسات القراءة. هذه العلاقة الضرورية أكسبتها فهماً حقيقياً للأطفال، وجعلتها على تماس بتساؤلاتهم وردود أفعالهم ومشاكلهم. من هنا لا يحتاج الكاتب إلى أن تسكن الشخصيات رأسه فحسب، برأي شرف الدين، يشكلّ الإبداع 20% من الكتابة، فيما يعتمد الجزء الآخر على البحث و «العمل الجدّي». تمضي شرف الدين وقتها في البحث، والقراءة، وحضور المؤتمرات حول أدب الطفل. نشاطها الذي لا ينضب، جعلها وجهاً عربياً معروفاً في المؤتمرات والمعارض العالمية، منها «معرض بولونيا للكتاب» و«معرض براغ للكتاب» و «معرض الشارقة» و«مهرجان الأدب في تركيا» إضافة إلى نيلها جوائز عدة. وفيما شاركت أخيراً في «المهرجان الآسيوي لأدب الأطفال» (سنغافورة) كأول كاتب من الشرق الأوسط، دعيت إلى «مهرجان أدب الأطفال» الذي سيقام في هولندا في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
خلال سنواتها العشر، نوّعت شرف الدين بين الكتابة للأطفال والمراهقين والترجمة والشعر فانتجت صوتاً عربياً ولبنانياً معاصراً في أدب الطفل. ماذا بقي إذاً؟ تنجز الكاتبة حالياً كتاب «حزازير» وأحجيات للأطفال (الساقي)، فيما تعمل على مشروع ترجمة قصص شعبية للأطفال من بلدان وثقافات مختلفة (turning point)، لكنها تنوي أيضاً التركيز في أدب المراهقين الذي «ينقصه الكثير عربياً».