غيّب الموت، أول من أمس، نبيل فيّاض (1955- 2022)، بعد صراع طويل مع المرض العضال، تاركاً خلفه عاصفة من الأسئلة المعلّقة في فضاء الجدل. ذلك أنّ هذا الباحث السوري المتمرّد، خاض معارك فكرية شرسة وضعته في مرمى خصوم كثر، نظراً إلى راديكاليّته في معالجة تاريخ الأديان، والإسلام، على نحوٍ خاص، قبل أن يتوغّل عميقاً في أحوال الطوائف والمذاهب والمسكوت عنه في التاريخ الإسلامي. كما سيعنى لاحقاً بجذور الأقلّيات وتاريخها وحقوقها المهدورة. دراسته الصيدلة قادته إلى اختراع وصفات هجينة في زعزعة الأفكار المستقرة نحو إكسير يشفي العقول من الجهل المقيم في الذاكرة الجمعية، فكان كمن يعبث بعشّ للدبابير. ففي سجلّه الحافل بالمعارك الفكرية والسجالات الحادة، فتاوى تكفيرية لا تحصى واتهامات بالهرطقة والإلحاد، لكنه لم يستسلم يوماً. يكفي أن نستعرض عناوين بعض كتبه حتى نكتشف عمق حفرياته في إعادة كتابة ما كان يقع في باب المسلّمات الدينية. أما برنامجه «تابو» الذي كانت تبثّه محطة «شام. اف. ام» الإذاعية الخاصة، فقد أوقف بعد بث حلقات قليلة منه، إذ أثار غضب بعض المشايخ السلفيين.

بتأمّل مسيرة نبيل فياض الفكرية، سنستغرب الدروب المتعرّجة التي سلكها نحو أطروحة مضادة، فقد بدأ مجاله البحثي بقراءة كافكا ونيتشه، وصولاً إلى «موسوعة الدين المقارن» على خلفية دراسته اللاهوت المسيحي في «جامعة الكسليك» في لبنان، والعلاقات الدولية من «جامعة كاليفورنيا»، و«كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية». عناوين مثل «يوم انحدر الجمل من السقيفة»، و«زمن معاوية»، و«أمّ المؤمنين تأكل أولادها»، و«فروقات المصاحف»، و«تاريخ الملائكة»، و«الفكر القرآني»، و«محمد نبيّ الإسلام»، لن تمرّ من دون عقبات وسخط واحتجاج، فقد تعرّضت رقابياً للمنع في معظم البلدان العربية، ولتكفير صاحبها. لكن نبيل فياض سيرفع العيار أثقل فأثقل في مجابهة الأطروحات المستقرة، وينفض الغبار عن وقائع تاريخية بهوامش لا تستكين لما كان قبلها، إذا لم نقل بأنها تشعل فتيلاً يصعب إخماده «المسلمون لا يعرفون دينهم؛ وإلا لصارت رايات الإلحاد ترفرف من طنجة إلى كوالا لامبور»، و«كلما ازدادت الفكرة هشاشة ازداد –إرهاب– أصحابها في الدفاع عنها».
شذرات استفزازية كان ينثرها في متن كتبه، وفي صفحته على الفايسبوك، بوصفها وقوداً لإشعال الحطب اليابس في التفكير الإسلامي. كما أنها، من ضفة ثانية، لا تخلو - حسب خصومه - من استعراضية ودون كيشوتية في مواجهة التيار: «هل سكت الزمان مرّة عن تذكيرنا بأحكام أهل الذمّة ومواقف أسوأ منظّري الإرهاب في تاريخ الكون، الحاخام ابن تيميّة، من المخالفين له في الرأي بمن فيهم بعض المسلمين؟». في مدوّنة من هذا الطراز، سيجفل بعضهم أمام مثل هذه الآراء، كأن صاحبها يرغب ضمناً في إثارة الفتنة وزعزعة النصّ المستقر، أكثر من عنايته بتصحيح التاريخ والعقائد تحت لافتة العلمانية. في رحيله، هطلت المراثي التي تثمّن الجهد الفكري لصاحب «مراثي اللات والعزّى» واعتبره بعضهم «جريئاً حتى حواف التهوّر في زمن الذل والهوان» و«حضريّاً في زمن التصحّر ومدنيّاً في زمن البداوة».
وكان المفكر الراحل يعمل في أيامه الأخيرة على كتاب تحت عنوان «كمشة بدو»، من المتوقع أن يصدر قريباً، وفيه مراجعة للأسئلة الصميمية التي طرحها قبلاً حول تاريخ الدين الإسلامي، سواء الشفوي منه أو ما هو مدوّن، بالإضافة إلى أسئلة راهنة، ربما ستوقظ غضب خصوم هذا المفكر الرجيم، بصرف النظر عن رؤيته الأكاديمية وتطلّعاته نحو دين مختلف.

* تُقبل التعازي اليوم في حمص في منزل شقيق الراحل، طلال فياض، الكائن في حي الشماس (الشارع 21)، قبل صلاة الظهر للنساء وبعد صلاة المغرب للرجال، كما في 27 و28 آب (أغسطس) الحالي في دمشق في صالة نقابة الأطباء (صالة رقم 1) في حيّ أبو رمانة مقابل حديقة المدفع، من الساعة السادسة لغاية الثامنة مساءً.