يغامر المرء عند الحديث عن موضوع معقّد كهذا بأن يُبسّط الأمر بما لا يليق به، وهذا ما نعيه ونتحاشاه. وهنا بعض جوانبه وليس كلها.مفردة الفوتوغرافيا photographie، التصوير الفوتوغرافيّ، تعود إلى كلمتين مركّبتين: ضوء، فوس (من اليونانية phỗs) زائداً غرافيا graphie أي غرافيك (وباليونانية غرافين grapheîn التي تعني كتابة) لتعني مفردة الفوتوغرافيا بالنهاية «غرافيك بالضوء، كتابة بالضوء». لكن الصورة الشعرية تنتمي فقط، بعيداً عن الترجمة الحرفية، إلى الكتابة (غرافيا graphie) كما في مفردة فن الخط، كاليغرافي calligraphie المكوّنة من: كالي (من اليونانية كالوس kállos أي الجميل) زائداً غرافيا مرة أخرى (كتابة) = كاليغرافي = الكتابة الجميلة.
في العربية وحدها على حدّ علمنا، يستخدم الفعل «التقط»، من لقط يلقط لقطاً والتقاطاً عند الحديث عن الفوتوغرافيا (سوى أن يكون ترجمة للفعل الفرنسيّ capturer أي أسر يأسر أسيراً)، بينما لا يقال «التقط» صورة شعرية رغم أنها ملتقطة بالأحرى أيضاً التقاطاً.
بأيّة حسّاسية نلتقط «صورتين» فوتوغرافية وشعرية، وعلى أي حامل، وبأية مواد (نثبّتهما)؟ في كلتيهما، الحساسية مهذّبة مشذّبة تراعي شروطاً كثيرة (لو كنا نستطيع وضع خط أحمر تحت: الحسّاسية مهذّبة مشذّبة تراعي شروطاً كثيرة، لفعلنا)، وحاملهما الأصليّ هو الذهن قبل أن يكون الورقة، كالرسم بالضبط.
كأننا نتكلّم عند تناول الفوتوغرافيا عن «لغة»، فهل نستخدم مصطلح «لغة» بشكل مجازيّ في التصوير الفوتوغرافي، وبدلالة حرفية في الشعر؟ وما هي حدود اللغة وحدود تأويل مفرداتها؟
كلما قرأنا نصاً وصفياً، بالظاهر، وتاريخياً بالظاهر مثل أشعار كفافيس، خيّل إلينا أننا أمام صورة فوتوغرافية عتيقة مصبوغة بالسيبيا. كلما رأينا صورة عزيز متوفّى أو صورة عائلية بالية للأجداد والجدّات، خيّل إلينا بأننا أمام شعر من أشعار الحنين (النوستالجيا).
«قصيدة الماضي» و«شعر النوستالجيا» هو بعض ما يرشح من بعض التصوير الفوتوغرافيّ. هذا بُعد أوّل.
في الصورة الفوتوغرافية أيضاً، وكلّ صورة مرسومة، ثمة ظاهر وباطن، مهما كانت درجة وثائقيّتها وحياديّتها، مثل لغة الكلام الشعريّ نعني المنطوق المكتوب. الصورة علامة Signe كما الكلمة علامة، وهي تتشكّل من دالّ ومدلول، لكن إذا كانت العلاقة بين الدالّ والمدلول اعتباطية في اللغة (كلمات اللغة في المعجم اللغوي)، فإنها فقط أقلّ اعتباطية في الصورة. في الكلمات، تبدو «الشعرية» بسبب هذه الاعتباطية متّسعة ومنتشرة ومسترخية، وقد لا تبدو بهذا الامتداد والاسترخاء والوضوح في الصورة الفوتوغرافية طالما أن الدال يُشابه المدلول فيها، فمفردة «باب» كعلامة في الكلام المنطوق، لا علاقة لها بالباب الفعلي الواقعيّ، لكنّ «باباً» في صورة فوتوغرافية أو مرسومة له علاقةُ مُماثَلةٍ بالباب الفعليّ.
إذا كان يوجد في الصورة الفوتوغرافية ظاهر وباطن، إذاً هناك إمكانية لتأويلها، وهو ما يمارسه غالبية المتلقّين بأشكال ومستويات مختلفة.
الشعر يلتقي مع الفوتوغرافيا في أنهما قد ينقلان سردية، قصة عبر وصفها أو تخيّلها. وفي كليهما، نستخدم مفاهيم مشتركة كالتكوين composition والضوء والصوت والفضاء (كلاهما يسعيان لخلق فضاء مخصوص) والطباعة نفسها في الشعر الحديث. يقع «تصميم» الصورة الشعرية بطريقة تتقارب بعمق من الداخل مع تصميم الصورة الفوتوغرافية، عبر إيقاعات وعواطف وخيارات تفصيلية مرهفة في كليهما. كان هوراس يقول إن «الصورة المرسومة هي قصيدة بلا كلمات». وقُوربت طريقة تصوير شعر الهايكو اليابانيّ الذي يقلل من التفاصيل الزائدة عن الحاجة، بصورة فوتوغرافية بسيطة لكن عميقة. ويقارب بعض المحللين طريقة استخدام المنظور perspective لدى الشاعر والمصوّر الفوتوغرافي. ويشير إلى قصيدتين للشاعر والاس ستيفن فيهما ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى شحرور. القصيدتان هما طريقتا رؤية تعبّران عن الكيفية التي يكون فيها المنظور مَرِناً، ويتشكل من خلال الخبرة والتفكير الفرديين. ويخلص إلى أن «نظرتي المصوّر الفوتوغرافيّ والشاعر تحليليتان، لكنهما فرديتان. وكما أن هناك العديد من الطرق للتعامل مع موضوع واحد بطريقة شعرية، فهناك العديد من الطرق للتعامل مع نفس الموضوع بشكل فوتوغرافيّ».

ملاحظة
قلّة تنقّب في تاريخ وجماليات الفوتوغرافيا في العالم العربي، مقارَنة بالمنقّبين في تاريخ وجماليات الشعر والسرد والسياسة والمعاجم والفولكلور.... ولا بدّ من سبب لهذا العزوف.
التنقيب في الفوتوغرافيا هو أنك لا تبحث بل تجد. «أنا لا أبحث بل أجد» قال بيكاسو بشأن رسمه. ويبدو أن المضمر في كلام بيكاسو هو أنّ من يجد، إنما يمتلك مستلزمات الأمر، أمر الإيجاد الذي يتعدّى عملية البحث نفسها.
التنقيب في الفوتوغرافيا يعني «متعة البحث» في مكتبة كبيرة، ورقية أو رقمية، وهو مثل التنقيب عن مادة لموضوع دراسي محدّد في مكتبة كبيرة: هناك من يغوص في التنقيب المُدقّق (كالدودة كما تذكر العاميات) مزوّداً بتلك اللذة، وهناك من يكتفي بكتالوغ المكتبة العام. وفي النتائج الأخيرة قد يتشابه الأمر على بعضهم، خاصة في الموضوع البَصرِيّ وفي وسط ثقافيّ من طبيعته الداخلية أن بعضه يزعم معرفة ومشاهَدة كل شيء، وبالنسبة لبعضه الآخر المختلف كالمتشابه.

ثقافة الصورة: استشهادات:
«التصوير الفوتوغرافيّ هو جوابٌ فوريٌّ لاستجوابٍ أزليّ».
هنري - كارتييه بروسون
■ ■ ■

«يتعامل التصوير الفوتوغرافيّ مع الأشياء المؤقتة التي عندما تختفي، لن يعيدها شيء على وجه الأرض».
هنري - كارتييه بروسون
■ ■ ■

«التصوير الفوتوغرافيّ لا يعيد إنتاج المرئيّ، بل يجعله مرئياً». (والجملة استثمار عارف لعبارة بول كليه الشهيرة «الرسم لا يعيد إنتاج المرئيّ، بل يجعله مرئياً». بعبارة أخرى كأنه يقول إنه لا يختلف أبداً عن فن الرسم، وهنا معضلة جديدة أمام الكثير من رسامينا الذين يعيدون ويستعيدون الفوتوغراف في رسومهم الملوّنة، وإنْ لم يُقل ذلك بالوضوح اللازم).

من كتاب «حفلة الربيع الكبيرة الراقصة» (لوزان 1951) نص: الشاعر جاك بريفير، تصوير الفوتوغرافي إيزيس

ريتشارد أفيدون مصوّر فوتوغرافي أميركي، وُلد في نيويورك في 15 أيار (مايو) 1923 لعائلة يهودية وتوفي في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2004. في عام 2010، بيعت صورة التقطها تظهر فيها عارضة الأزياء دوفيما لقاء 841 ألف يورو.
■ ■ ■

«التصوير الفوتوغرافي هو بناء عقليّ قبل أن يكون واقعاً».
فاليري جوف
هذه الجملة تستدعي جملة دافنشي الشهيرة: «فن الرسم هو أمر عقليّ»
■ ■ ■

«التصوير الفوتوغرافي هو تحدٍ ملتبس للصدفة».
غي لو كيري

* شاعر وجامعي عراقي