في صيف مدينتنا المحبطة، يلفتني عناد غاليريات بيروت والقيّمين عليها، فكلٌّ يواجه بأسلوبه وعلى طريقته حالة الشحّ (والضحالة أحياناً ) التي تكابدها الحركة التشكيليّة، فالركود الفنّي سمة عامّة تسبّبت بها ارتجاجات من كلّ نوع. مع ذلك، تفاجئنا طاقة منظّمي المعارض على توفير الاستمرار، رغم الواقع الخانق. كأنّهم نشاطهم وصمودهم يرغبون في التأكيد على تجذّرهم في مدينة الثقافة والفن والنشر والمسرح والسينما التي كانت هكذا طوال عقود الزمن الجميل. بيد أنّهم لا يخفون في المقابل قلقاً متحكّماً في النفوس، وندرةً في الجمهور المهتمّ والمتابع، وإحباطاً يغلّف جوّ المدينة التي لم تهدأ ولم تستكن يوماً فنياً وثقافياً. ‏في هذه الأجواء المرتبكة، تعمل بعض صالات العرض («جانين ربيز»، «زملر»، «شرفان» على سبيل المثال لا الحصر) على حفظ الصلات القائمة بين الغاليريات والفنانين، وإن بصعوبة، وفاءً لتراث المدينة ودورها الطليعيّ الذي اضطلعت به ماضياً، مشرّعةً الأبواب أمام فنانين محلّيين وعرب وأجانب. نشهد اليوم انقساماً في أوساط الفنانين حيال افتتاح صالات عرض جديدة، لمعارض فرديّة أو جماعيّة. منهم المتفائلون بمستقبل أفضل وحركة فنية أنشط، أو متخوّفون من هبوط مستوى المعارض والأعمال الفنية، خصوصاً أنّنا نشهد أماكن غير صالحة لاستقبال المعارض التي تتطلّب شروطاً «مهنيّة» وتقنية للعرض مثل البنوك والفنادق والمقاهي والشوارع والمستشفيات!
‏تشهد مدينتنا أيضاً تكراراً في أسماء الفنانين العارضين الذين يقدّمون أعمالهم موسميّاً، فهل يمكن اعتبار ذلك ظاهرة صحّية تشكّل إضافةً نوعيّة للحركة التشكيليّة؟ إذ لا بدّ من التمييز بين الفنّي والتجاريّ، الإبداعيّ والمادّي. بعض صالات العرض يحوّل اللوحة والمنحوتة سلعةً تجاريّة (لتزيين الصالونات مثلاً)، وهذا يتجاوز المفهوم الفنّي الإبداعيّ إلى شيء آخر لا صلة له على الإطلاق بالفن وشروطه وأصوله ومعاييره. ‏نحن، للأسف، في مرحلة انحطاط ثقافي وفنّي هائل، تشكيلاً ومسرحاً وأغنيةً وشعراً وإصداراً. يعوزنا إنعاش ثقافيّ شامل يرفع عن صدورنا ذاك الشعور بالسخط والغضب حيال ما تروِّج له وسائل الإعلام، المرئيّة والمقروءة والمسموعة والإلكترونيّة. مذهلٌ ومفجع هذا الكمّ من الانحدار والتراجع، فكراً وفنّاً وأخلاقاً وأصالةً، حتى على مستوى القيم والعلاقات الإنسانيّة.
في جانب آخر متّصل، عادت مهرجانات الصيف، أو بعض أشهرها على الأقلّ (بعلبك، بيت الدين، البترون...) قليلة العروض والأمسيات، ضعيفة المضمون، كمّاً ونوعاً، لأسباب ماليّة ولوجستيّة واقتصاديّة. مع ذلك، يظلّ هناك جانب إيجابي يجدر التنويه به، هو الإصرار على الاستمرار في الحدّ الأدنى، فالقليل أفضل من اللاشيء، والنزير من حياةٍ و حيويّةٍ أفضل من الموت والفراغ.
يجب أن نحتفظ بالأمل، أو بالقليل منه. على الرغم من التعب والإحباط والصعوبات المعيشيّة، ما برح في المدينة قَبَسٌ من نور، خيطٌ رفيعٌ من رجاء، حلمٌ بمستقبل أفضل يُعيد لبيروت وهجها وألقها وحيويّتها الفنّية والثقافيّة. يجب أن نحتفظ بهذين الحلم والرجاء، رغم كل شيء.