في أحد شتاءات دمشق الباردة وفي أقبية التعذيب، يفتح السجّان الباب ويبدأ برشّ المياه على جموع المعتقلين، فيُشيح أحدهم بوجهه نحو طاقة التهوية، ليصرخ به السجّان سائلاً عن السبب الذي جعله يرفع رأسه، فيجيب المعتقَل بهدوء: «أحاول معرفة وقت غروب الشمس من أجل الصلاة!». فيردّ السجّان باستغراب: «منذ 17 عاماً وأنا أداوم في هذا المكان، ولم أتمكّن لمرة واحد من رؤية الشروق أو الغروب». ثم يدخل الجميع في صمت طويل وينسحب السجّان مقهوراً مع خرطوم مياهه.
تلك الحادثة الحقيقية يرويها لنا أحد أبرز فنيي الدراما السورية، وهو معتقل سابق. لكننا في مسلسل «قلم حمرة» («السومرية») ليم مشهدي وحاتم علي، نحن أمام لقطات متكرّرة تقبض على روح المشهد الحقيقي الذي رويناه، وهي مجرّد نقطة في بحر ما يجري داخل سجون الاستبداد.
في الزنزانة تقبع «ورد» (سلافة معمار ــ الصورة)، وتخطف خلفاً من خلال «فلاش باك» تقليدي لتروي لنا قصتها، وما الذي أوصلها إلى المعتقل. تنام وتصحو على ظلام السجن الانفرادي وقذارته، فتباغتها الدورة الشهرية لتبدأ حواراً ذاتياً يفنّد للمرّة الأولى تفاصيل فيزيولوجية تتعلّق بالمرأة، بطريقة متقنة وأداء لافت.
يمرّ المشهد وهي تخبط بقوّة على باب الزنزانة، مطالبة بفوط صحية، لكنّها سرعان ما تقرّر الاتكال على نفسها، فتمزّق قميصاً بحوزتها ليفي بالغرض. بعد ذلك، تعاني «ورد» من حمّى، وإذا بمصادفات القدر ترسل لها سجينة تشاركها الزنزانة، وتكتشف لاحقاً أنّها تعمل صيدلانية، فتعيد لها قليلاً من الحياة. السجينة الجديدة تحصل بطريقة ما على علبة دواء التهاب. على المريضة تناول الأقراص بانتظام كل 6 ساعات، لكن كيف عليهما أن تعرفا الوقت؟

أعطى فرصة العودة لرامي حنا ممثّلاً، بعدما تفرّغ للإخراج لسنوات
خارج الزنزانة، نتابع المجتمع الضيّق الذي كان يُحيط بـ«ورد»، وتتكشّف خيوط القصة الممتعة تباعاً. ببراعة فائقة، يتمكّن حاتم علي من إقناع المشاهد بأنّه في أحياء «باب شرقي» (دمشق) من خلال الاستعانة بأسواق مدينة جبيل القديمة (شمالي بيروت)، ويصوغ مشاهده كقصص تلفزيونية قصيرة، وهو ما يميّز لغته الإخراجية عن غيره.
إلى جانب ذلك، أعطى «قلم حمرة» فرصة العودة المتألقة لرامي حنا ممثلاً، بعدما تفرّغ للإخراج لسنوات عدّة. هكذا، تغوص الكاتبة يم مشهدي في حياة خبِرتها عن قرب، وكأنّها في مسلسلها تصنع شيئاً مما عاشته في الواقع، لكن بطريقة درامية مبكّلة. علماً بأنّها كانت من أوائل الناشطات اللواتي وقفن مع الحراك السلمي للشعب السوري، وأسهمت فيه، إضافة إلى تجربة اعتقال بسيطة بعد مشاركتها في تظاهرة المثقفين الشهيرة عام 2011. من دون أن ننسى أنّ مشهدي متخرجة من «المعهد العالي للفنون المسرحية» (قسم النقد).
في المسلسل، سنتابع «ورد» كاتبة السيناريو المعتقلة، ونراقب قصص دفعة من طلاب المعهد المسرحي، إضافة إلى الطبيب النفسي «تيم» (عابد فهد)، وكيف التقى حبيبته السابقة وهي على مشارف إنهاء زواجها، وصولاً إلى تسلّح «الثورة»، والخروج المتلاحق للمناطق السورية من تحت سيطرة النظام.
تدور الحكاية على خلفية موسيقى مؤثرة وضعها إياد الريماوي، لكن يبدو واضحاً تأثره البالغ بالفلكلور الفرنسي، وتحديداً فيلم «إميلي بولان» للمخرج جان بيار جوني. وتتضح للعارف استفادة الريماوي الكبيرة في تتر المسلسل من مقطوعة Oblivion (نسيان) لأحد عرّابي موسيقى التانغو الأرجنتيني أستور بيازولا. على أيّ حال، يلقى المسلسل حتى عرض حلقته الرابعة قبولاً واسعاً لدى الجمهور الذي يستعين أحياناً بموقع يوتيوب لمتابعته في حال تعذّر مشاهدة القناة العراقية التي ربحت عرضه حصرياً. كأنّ لسان حال السوريين في هذا العمل يقول: «مهما بلغ السيل الزبى، وأينما وصلت قافلة بلادنا في طريق الخراب، سنعتصم عند مهنتنا الإبداعية، وسنواكب الواقع الأليم بأسلوب الفرجة الممتعة، والتماس المباشر مع الواقع الموجع».

* «قلم حمرة» يومياً 19:30 على «السومرية»