أراد الباحث الأكاديمي علي الديري في كتابه «خير القرون... كيف نفهم الخير في التاريخ؟» (دار الانتشار العربي) محاكمةَ ثقافةٍ مُؤَسَّسَةٍ على نص لا مناقشةَ النصِّ نفسِه بما هوَ كما هو؛ لأنه (أي الديري) وجدَ، وأثبتَ حقيقةَ ما وجد، أنَّ الاحتفاء اللافت للنظر بالنص المنسوب إلى النبي محمد في كتب التراث الروائية يتعدّى الدلالةَ السطحية لهذا النص؛ بما أرادُوه (وقد كشف هويّة من أرادوا ذلك) له من بناءِ رؤيةٍ شاملةٍ للتراث الديني تتحكّمُ بموازين القبول والرفض للأخبار، والروايات، والنصوص، والمسائل الفقهية والكلامية، وبالتالي في موازين الهدى والضلال للشخصيات والمذاهب والمدارس والاتجاهات. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تمتد هذه الثقافةُ إلى الواقع الراهن، وتختزنَ قابليةَ الخلود عبر الأزمان القادمة إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها!
يركّز علي الديري على دور السلطة في صناعة الشخصيات العلمية ذات النفوذ في الساحة الإسلامية

عندما يُروى هذا النص: «خيرُ القرون قرني، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم»، بصِيَغِهِ المتعددةِ، في أبرز المجاميع الحديثيةِ، ويأخذُ اعتباريةً استثنائيةً تفوقُ اعتباريةَ نصوصٍ أخرى مرويةٍ في هذه المجاميع نفسِها وغيرها أيضاً، فإنه من اللازم للباحث أن يتساءل عمّا وراء الأكَمَةِ؟! هذا ما قام به الديري في هذا الكتاب، مما قاده إلى نتائج جديرةٍ بالتأمل بعدما فكّك بتَأَنٍّ تركيبةَ الصورةِ العامةِ لهذا النص بكل متعلقاتِها: التاريخيةِ، والسياسيةِ، والعقديةِ، والحديثيةِ، والأصوليةِ (نسبةً إلى علم الأصول). باختصار، «خيرُ القرون...» قاعدةٌ ذاتُ صبغةٍ شرعيةٍ دينياً لتسييج ذواتِ جماعةٍ خاصةٍ (الصحابة والتابعين وتابعي التابعين: ليس كلَّ الصحابةِ وتابعيهم وتابعي تابعيهم) عن النقد، هذا أوّلاً، ولشرعنةِ تناقضاتِ حياتِهم وما يؤخذ عليها بموازين الشرع والعقل ثانياً، وكسبيلٍ لنتفِ ريش (القدح في) غير المرضي عنهم عند السياسة الرسمية (السلطة) ثالثاً. كلُّ ذلك وفق توجيهٍ مدروس من رأس الدولة (الخلافة الأموية) في زمانها، ووفق آلياتٍ محدّدة منها: آليةُ تقييم النص الديني والتاريخي بناءً على صحة السند.
في هذا المفترق البحثي، يجرؤُ علي الديري على اعتبار جذور بعض المسائل العلميةِ سياسيّةً، ولا يواربُ في التصريح بدور (السُّلطة) الرئيسي في صراع أصحاب المناهج العلمية المذهبية، والتركيز على دورها (أي السلطة) في صناعة الشخصيات العلمية ذات النفوذ في الساحة الدينية الإسلامية. استفاض الكاتب في ثلاثة محاور رئيسيةٍ للاستدلال على الفكرة المركزية للبحث. المحور الأول حول فكرة «خير القرون» والدلالة التي يُوَجَّه لها المجتمعُ المسلمُ لفهم هذا النص، بعيداً عن أي تأويلاتٍ تُعارِض إرادة صانعي النص المنسوب إلى نبي الإسلام.
المحور الثاني، حول محنة ابن جرير الطبري، المؤرّخ الموسوعي الشهير، صاحب «تاريخ الرسل والملوك» وتفسير «جامع البيان»، مع الحنابلة في زمانه، وما طرأ على الفكر السلفي من محاولات لإعادة تشكيل شخصية الطبري وتقديمها باعتباره «سلفياً» يتماهى مع رؤيتهم للقضايا الخلافية بين المذاهب، والمواقف الحاسمة من الشخصيات المتبايِنة مع منهجهم الفكري. المحور الثالث، تناولَ فيه مسألة «إسناد الأخبار المرويّة عن النبي»، وبحَثَ في جذور نشأة مسألة تقييم الخبر وفقاً للسند، وضوابط السند المعتبر وغير المعتبر، وخفايا هذه الآلية التي تبدو علميّةً، وكيفية توظيفها في الصراعات المذهبية واختلافات المدارس الفقهية والكلامية في الإسلام.
يمكن اعتبار الكتاب مُقنعاً بدرجة كبيرة. ولو تجاوز القارئُ، سطحَ الاستعراض التاريخي لمادة الكتاب وفتّش في مُراداتٍ مستتِرةٍ للكاتب، فإنه قد يخرج بنتائجَ أكثر جرأةٍ مما تمّ التصريحُ به في الكتاب. أقول ذلك غير جازم بأيٍّ من هذه المُرادات، غير أنّه من الواضح جداً أنّ الكاتب لم يُرِد من هذا الجهد البحثي أن يتحرّش بالتاريخ ويداعِبَ الواقع!
ولو تأمّلنا في نتائج حاكمية ثقافة «خير القرون» على الذهنية الإسلامية العامة، فإننا نكاد لا نجد في أصحاب المذاهب والمدارس الفقهية عند المسلمين من لا يوظّفُ هذه النتائجَ في واقعه العملي على الإطلاق. فلو اعتبرنا أنّ ثقافة «خير القرون» تعني، في ما تعني: حاكمية السَّلَف على الخَلَف، واعتبارية الأولية الزمانية على ما يليها، واختراع ضوابط لتقييم الأشخاص والنصوص لا تتعدّى «سلاسل الأسانيد»، وغير ذلك فإنّه يمكننا أن نجد في سوء توظيف نصوص أخرى (غير نص: خير القرون)، عند أتباع مدارس أخرى (غير السلفية) مطابَقةً لما يفعلُه المتمسكون بمحورية «خير القرون» في منظومتهم الفكرية. مثال ذلك نص: «فأما الحوادث الواقعة...» عند الشيعة، المنسوب إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي، وكيف أنّ سُلطة فقهاء القرون الأقرب لعصر الغيبة أنفذُ حاكميّةً على من يليهم من الفقهاء كلما توالَتْ حركة الزمن، ولو من الناحية النظرية أو المعنوية! كذلك نجد في هذا الإطار مسألة توظيف «السند» في توثيق الرواية والرواة حاضرةً بلباسها الخاص في شهادات مَنْ يُصطَلح عليهم بأهل الخبرة الذين تريد جهاتٌ معيّنةٌ تعميمَ ثقافةِ اعتباريةِ لرأيهم في فقاهة فلان أو عدم فقاهته، وأعلمية فلان أو عدم أعلميته، مع ضرورة أن تكون قائمةُ هؤلاء الخبراء ذاتَ توجُّهٍ معين، وذات لونٍ خاص لئلا تبقى أيُّ قيمةٍ علميةٍ لآراءِ آخرين يمكن أن يكونوا وفق الموازين الموضوعية من أهل الخبرة، لكنهم من غير قماشة «الجماعة الرسمية» للجهة المُراد تعميم مرجعيتِها وأعلميتِها على الواقع الشيعي (أيّاً تكن هذه الجهة دون تحديدٍ أو غمز)!
ربما يعتقد القارئُ لوهلةٍ أنّ كتابَ «خير القرون» بحثٌ مطروقٌ كثيراً من باحثين متعددين، لكنّ مجرد إعادة طرح هذا الموضوع للدراسة والبحث يعني إحياءَ التأمُّل بعين النقد لفكرةٍ يُراد لها أن تترسَّب في اللاوعي العام للمجتمع المسلم، بحيث يغفل عنها وهو يتعاطى معها بعفوية، إضافةً إلى أنَّ ما بين السطور في الكتاب يعطي قيمةً إضافيةً للبحث جديرةً بما بُذل في سبيلها من عناء.

* كاتب بحريني