عند الحديث عن الرواية في العالم العربي بشكل عام، وفي السعودية بشكل خاص، لا يمكن للقارئ تجاوز اسم عبد الرحمن منيف (1933 ــــ 2004) لسببين رئيسين: أهميّته التاريخيّة والأدبية في كتابة الرواية العربية، وما تضمّنته أعماله من قراءات فكرية ونقدية خلقت حالة وعي عام في العالم العربي. الوعي هنا ليس تبني الموقف النقدي المعارض للأنظمة الحاكمة، بل الوعي بالحالة الثقافية والاجتماعية التي أخذت بالتشكّل مع تأسيس الدول العربية واكتشاف النفط، خصوصاً في تحفته «مدن الملح» (1984). بعبقريّته الأدبية ووعيه السياسي الحاد، استطاع منيف التنبؤ بما وصلت إليه الحالة الاجتماعية والثقافية في السعودية اليوم، خصوصاً على مستوى سؤالَي الهوية والذاكرة الاجتماعية. لا بد هنا من نقد حالتين عامّتين في التعامل مع «مدن الملح». الحالة الأولى تتمثّل في التعامل مع النص على أنّه نصّ تأريخي للأحداث في قالب أدبي. أما الحالة الثانية، فهي نقد العمل على أساس عدم دقّته التأريخية. وهنا استخدمنا مصطلح «تأريخ» لا «تاريخ» للإشارة إلى فعل التأريخ لا المادة التاريخية. كلتا الحالتين تقعان في مشكلة منهجية جوهرية، وهي محاكمة النص الأدبي محاكمةً غير أدبية. أولاً، الرواية لا تُكتب على أساس وظيفي، أي أنّها لا تعمل على إيصال المعلومات وتحديد مسار أفكار أو أحداث معينة، كأنّ النص عبارة عن ناقل. ثانياً، وبعيداً عن جدل التصنيفات، لا تعمل الرواية التاريخية عمل القالب الأدبي لتوثيق الأحداث، بل تحمل في موضوعها وحبكتها ومضامينها الفنية والدلالية تناول حالة ما، أو حالات عدة، في مرحلة زمنية ما، تناولاً أدبياً. بمعنى أن الرواية التاريخية تتعامل مع الحالة التاريخية لا الحدث التاريخي. وبالتالي، فالتعامل مع «مدن الملح» على أساس توثيقها للأحداث التاريخية لا تناولها للحالة التاريخية التي تشكلّت مع الثورة النفطية، لا علاقة له بنقد النص الأدبي.
اشتغل منيف في «مدن الملح» على وصف التحولات السريعة لمجتمعات شبه الجزيرة العربية التي رافقت الثورة النفطية. اختار، كانطلاقة، بيئة البادية ذات العلاقات البسيطة نسبياً، ليرسم خطاً أفقياً يفحص تطور الحالة الاجتماعية والثقافية، وما فرض على هذه البيئة كواقع جديد من المعاملات والعلاقات غير المألوفة والمعقدة. إذ تحتّم على مجتمعات الجزيرة العربية – وما مجتمع البادية سوى واحد منها ــــ الدخول في مخاض منظومة جديدة تحرّكها يد وحش رأس المال. ومن التيه حتى المنبت، لم ينفصل سؤالا الهوية والذاكرة الاجتماعية.
لم يفصل منيف الهوية عن ذاكرة المكان. فعلاقة الناس مع ذاكرة أمكنتهم، هي التي تنتج طبيعة علاقاتهم مع الأمكنة. وكيفيّة تعريف الناس لعلاقتهم مع الأمكنة وتاريخها تصيّر ذواتهم ورؤيتهم لأنفسهم وللآخرين، كما تشكّل المنظومة الاجتماعية والأخلاقية التي تنظّم هذه العلاقات وتحدّد مسار تطورها. وهنا، لا علاقة للتقدم والتخلّف المؤسساتي والتكنولوجي، بقدر ما للعلاقات التي تحددها المؤسسات والتكنولوجيا وتفرضها على الأمكنة، وبقدر ما لهذه المؤسسات والتكنولوجيا من صلة مع واقع الناس ونتاجها. غير أنّ ما حدث مع الثورة النفطية حتّم على المجتمعات الدخول في تحولات وتغييرات لا علاقة لها لا بهويتهم ولا بذاكرة الأمكنة وتاريخها، ولا بنتاج المجتمع وتاريخه.
يشير منيف إلى الهوية والمكان في جزء «التيه» برمزية حسيّة على لسان أميركي غريب يحكي عن المكان وطبيعته، واصفاً تعبير إنسان المكان عن ذاته بـ «ما أعجب هؤلاء الناس، ولشد ما يبدون غامضين، لا يعرف الإنسان هل هم فرحون أم حزانى. كل شيء فيهم مغلّف، طبقات فوق طبقات، تماماً مثل الصحراء التي يعيشون فوقها!».
إضافةً إلى ذلك، غيّرت هذه التحولات والتغييرات الأمكنة نفسها، وفرضت منظومة اجتماعية وأخلاقية مبنية على طبيعة العلاقات في سوق العمل والإنتاج، مع الحفاظ على الحدود الدينيّة والعلاقات الاجتماعية التي تنضوي تحت مظلة المقدّس والممنوع، وبعض الأعراف المهمة في الحفاظ على المجتمع كمجتمع وظيفي. وبالتالي، تغيّر الهيكل الاجتماعي وطبيعة العلاقات وما عادت القيمة الاجتماعية هي التي تحدّد أهمية ما يجب وما لا يجب الحفاظ عليه، بل المال ومصلحة الدولة التي تشكلّت وتمأسست على أساس موقعها وأهميتها لسوق النفط. بالتالي، ما عاد لذاكرة المكان الماضية من أهميّة. وإلغاء أهمية ذاكرة المكان يعني إلغاء ما كان يشكّل هوية إنسان هذا المكان. هكذا، حملت التحوّلات معها حالة مشوهة للهوية والذاكرة، لأن ما تمرّره هذه التحوّلات القسرية هو ما يتناسب معها ومع منظومة المجتمع الجديدة ومصلحة السوق، فمصلحة السوق وحاجته هما اللتان تحدّدان أهمية المكان. إذ أصبح تحديد الهوية وذاكرة المكان عملاً مؤسساتياً سياسياً، أي أن تعريف إنسان الجزيرة لنفسه وتاريخه ومكانه لم يعد عائداً إليه. هكذا رأى منيف تبعات المخاض للبناء الاجتماعي الجديد الذي رافق الثورة النفطية. وهذا ما جعل ذاكرة المكان جزءاً من ماضٍ يتماس مع الشعور بالحنين.
من خلال بناء المكان وإنسان المكان على أساس العلاقات الجديدة، فُرضت هوية جديدة أيضاً يتفاوت تناسبها وعدم تناسبها مع المكان الجديد والعلاقات الجديدة بناءً على رؤية المؤسسة السياسية، ودورها في السوق. إذ أنتج هذا خللاً واضحاً في تركيب المجتمعات، وعلاقاتها مع ذواتها ومع المجتمعات الأخرى. فالهوية المفروضة لا علاقة لها بتاريخ المكان، وذاكرة المكان تم تحديدها وتدوينها من قبل المؤسسات الجديدة. لذلك، بقي سؤال الهوية معلّقاً بلا إجابة. فما هي الهوية السعودية؟ ما العناصر الثقافية التي يمكن أن نستند إليها لتحديد هذه الهوية؟ هل هي هوية واحدة أم هويات متعددة ومختلفة؟ وكيف يمكننا تحديد العناصر الثقافية من دون تحديد ذاكرة المكان وتاريخه؟ هذه الأسئلة تعيدنا إلى رؤية منيف، مؤكدةً على ما خلّفه التغيير القسري للأمكنة وناسها. تغيير استند في كل شيء إلى عامل الربح وسوق النفط. ولأن هذا التغيير وظيفي، فقد أنتج لنا إنساناً وظيفياً بشكلٍ نسبيٍ. كأنّ منيف تنبأ بالحالة الثقافية السعودية اليوم، خصوصاً في موضوعي الهوية وذاكرة المكان، وبالتالي بالنتاج الثقافي الذي ستبنى عليه ذاكرة الأجيال القادمة.
روايته «مدن الملح» خلقت وعياً بالحالة الثقافية والاجتماعية التي أخذت بالتشكّل مع تأسيس الدول العربية واكتشاف النفط

فجنسية المواطن ليست هويته، والعوامل الاقتصادية والسياسية التي تسهم في بناء المكان ليست ذاكرةً للمكان، بل من المفترض أن تكون إضافة إليها. لكن سرعة التحولات الكبيرة وأهدافها ولّدت حالة معاكسة لذلك. هذه هي الحالة التي رصدها منيف وتناولها في رائعته «مدن الملح»، وما زالت مستمرةً حتى اليوم. هذا لا يعني أن المجتمعات في الجزيرة العربية، وفي السعودية، لا تحمل إرثاً ثقافياً وعاداتٍ وتقاليد اجتماعية عريقة في القدم، إنما الحالة التي تعيشها هذه المجتمعات ما هي إلا نتيجة لمخاضٍ قسري يتماهى مع بنيان الدولة الذي ارتبطت أساساته ببنية سوق النفط.
يقول منيف في ورقته «بعض آثار صدمة النفط في الجزيرة العربية» التي ألقاها في ندوة في مدينة مونتريال الكندية عام 1993: «حاولت في روايتي «مدن الملح»، بأجزائها الخمسة، وصف المخاض الطويل الصعب الذي رافق صناعة النفط في الجزيرة العربية، وكيف كان يؤمل أن يكون هذا المصدر- الذي وهبته الطبيعة لهذه المنطقة التي عانت كثيراً وطويلاً - طريقاً إلى المستقبل أملاً للأجيال القادمة. لكن هذه الفرصة على وشك الضياع والانتهاء، ولذلك فنحن عند مفترق طرق، وكل الاحتمالات ممكنة، ومن الأفضل للإنسانية أن لا تتحمّل أعباء إضافية من خلال انزلاق شعوب أخرى نحو الفاقة والفقر، وهذه المهمة تتجاوز من يتخذون القرار الآن. وهنا يبرز دور الأدب والثقافة».