عاد الحديث في العقد الأخير خصوصاً بشأن مشروع الدولة الواحدة على أرض فلسطين التاريخية بدلاً من مشروع الدولتين الذي بدأ التنظير الفعليّ له منذ هزيمة عام 1967، وتكرّس بنحو أساسي بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. هل هي استعادة مشروع قديم أم تأسيس لمشروع جديد؟ يشير الأكاديمي الفلسطيني رائف زريق في كتابه «القضية الفلسطينية وحل الدولة/الدولتين» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) إلى أنّ هذه المسألة ليست مجرد تفضيل لهذا المشروع أو ذاك، وإلى أن هذين المشروعين قد كانا موجودين منذ البدايات الأولى للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي (التي يحددها الكتاب بـ«وعد بلفور» عام 1917).
يؤكد زريق أن «وعد بلفور»، الذي يعتبره أول النصوص السياسيّة في هذه المسألة، تعامل مع اليهود بوصفهم شعباً، بينما عدّ الفلسطينيين مجموعة من الطوائف والجماعات الدينية. وباعتبار أن هذا الوعد قد أُدرج في «مؤتمر سان ريمو» (1920)، و«مجلس عصبة الأمم» (1922)، أصبح بمثابة سياسة معتمدة دولية، ولم يعد مقتصراً على وزير خارجية بريطانيا، أو حتى سياسة بريطانيا بذاتها. وانطلاقاً من هذا التاريخ، بدأت جذور الفكر الثنائي القومية بالبروز في الحركة الصهيونية عبر حركة «بريت شالوم» (حلف السلام)، وحركة «إيحود»، ولكنها لم تكن قادرة على التحول إلى حركة واسعة، بالرغم من تبنّيها من شخصيات صهيونية بارزة مثل حاييم وايزمن. ومع ذلك، أدرك «صقور» الحركة الصهيونية أهمية هذه الحركة وخطرها، بحيث اعتبرها الكثيرون (بن غوريون خصوصاً) ذات أخطار على المشروع الصهيوني برمته. ويشير زريق (مقتبساً كتاب «جذور الرفض الفلسطيني» لفيصل حوراني) إلى أن العرب تعاملوا مع الوجود اليهودي بشكل مركّب، وصولاً إلى «وعد بلفور» وإقرار صك الانتداب، حيث ساور الارتياب بعضهم، فيما أبدى البعض الآخر «تفهّماً لاضطهاد اليهود، وبالتالي التعاطف مع الحركة الصهيونية» باعتبارها ظاهرة سياسية تُقبَل أو تُرفَض، لأنّ معالم ذلك المشروع لم تتضح بالكامل حتى تلك الفترة.
وبينما لم يكن أحد داخل المجتمع الإسرائيلي بين حربي 1948 و1967 يفكر في دولة ثنائية القومية بعد الانتصارات الحاسمة التي حققتها الحركة الصهيونية (فيما عدا حركة «متسبين» التروتسكية التي طرحت فكرة الدولة الواحدة)، وعلى الرغم من أن هذا المنطق لم يستطع إحراز نجاحات واضحة على الصعيد الفلسطيني، إلا أنه لا يزال الموقف الرسمي الذي تتبناه «منظمة التحرير» والسلطة الفلسطينية، وصولاً إلى المساعي الأخيرة في الأمم المتحدة عام 2012. ويشير زريق إلى أن سبب هذا الانتقال من حل الدولة (الذي كان سائداً بدرجة ما قبل عام 1967) إلى حل الدولتين، هو أنّ حركة التحرر الفلسطيني كانت في بداياتها جزءاً من حركة التحرر العربي، واعتبرت أن الحل هو التحرير وحل الدولة الواحدة من دون حقوق جماعية لليهود، إلا أن اختزال القضية من اعتبارها «قضية العرب» إلى «قضية الفلسطينيين» أدّى إلى الانتقال التدريجي من حل الدولة إلى حل الدولتين.

تعامل «وعد بلفور» مع اليهود كشعب، وعدّ الفلسطينيين مجموعة من الطوائف

لكن استحالة حل الدولتين لأن «الاحتلال جزء مكوّن من الشخصية الإسرائيلية»، لا يعني حتميّة مشروع الدولة الواحدة، بالرغم من إعادة طرحه الآن من مثقفين إسرائيليين، والتزاوج بين مبدأَي ثنائية القومية والدولة الواحدة في السياسة الفلسطينية الجديدة؛ بل ينبغي دراسة هذين البديلين قبل تحديد «الأنسب» بينهما. فمع استحالة تقسيم البلد، لا بسبب غياب الإرادة السياسية للطرفين فحسب، بل كذلك لأن البلد وجغرافيته يرفضانه ولا يتحملانه، يبدو حل الدولتين أكثر بعداً عن الواقع، ولا سيما مع اقترانه بالتوسع الإسرائيلي الكبير وتوغله ضمن أراضي الضفة الغربية، عدا عن أنّ هذا الحل يعني إبقاء مجموعتين فلسطينيتين خارج معادلة الحل: وهما فلسطينيو الداخل (فلسطينيو أراضي عام 1948)، واللاجئون الفلسطينيون الذين ستكون عودتهم إلى داخل إسرائيل غير ممكنة. وبما أن كلا الحلين غير موجودين فعلياً على أرض الواقع، يتزايد الحديث بشأن أهمية طرح الحل «الأكثر استناداً إلى الحقوق الشرعية ومقتضيات العدالة التاريخية»، أي حل الدولة الواحدة، بخاصة لأن «أَوْسَلَة الوضع الفلسطيني» جعلت من المستحيل عملياً تحقيق حل الدولتين، وإن بدا للوهلة الأولى أكثر واقعية. ولكن، بالمقابل، لا ينبغي الاكتفاء بالتنظير الذهني لحل الدولة الواحدة، بل يجب تحويله إلى مشروع سياسي قادر على الإجابة عن تحديين أساسيين: موازين القوى، ومسألة العدالة. وكذلك، يجب التمييز بين نمطين من حل الدولة الواحدة، يقوم الأول على الدولة الديموقراطية العلمانية، والثاني على الدولة الثنائية القومية. ويشير الكاتب إلى أن معارضة النمط الأول (الديموقراطي العلماني) أشد كثيراً من النموذج الآخر، لأن المناصرين الإسرائيليين للحل ثنائي القومية يرون أنفسهم «معنيين بالحفاظ على الكيان الثقافي الجماعي لليهود في فلسطين... وإن ليس بالضرورة على شكل دولة يهودية صافية»، بينما لا تحقق الدولة الديموقراطية العلمانية المستندة إلى مبدأ المواطَنة هذا التوجّه. وعلى الصعيد الفلسطيني، يبدو الحديث عن الدولة الواحدة أكثر قابلية لتحويل الضعف الفلسطيني إلى عامل قوة، بخاصة عبر فتح آفاق جديدة للتفكير، وابتكار أساليب نضالية جديدة لا يكون للتفوق العسكري الإسرائيلي فيها أي معنى.
ويختتم زريق كتابه بالإشارة إلى أنّ «حل الدولتين دفنه التاريخ، في حين يبدو حل الدولة الواحدة وكأنه لم يولد بعد»، وبين هذا الوهم وذلك الحلم يتأرجح الواقع الفلسطيني الفعليّ. ومع تأكيده أنّ من الوهم الاعتقاد بأن حل الدولة الواحدة هو المخرج المباشر من هذا المأزق الحاليّ، إلا أنّ خطاب الدولة الواحدة يفتح آفاقاً أكبر للتفكير والحوار ولطرح الأسئلة الصحيحة؛ وإنّ هذه النقطة الأخيرة بالذات هي النقطة الجوهرية في أي خطاب سياسي يسعى للبحث عن حل لأكبر قضية شائكة في المنطقة.