قبل أيام انطلقت «مهرجانات بعلبك الدولية» ببرنامج يتألّف من أربعة مواعيد، يستمر لغاية السابع عشر من الجاري. اليوم توافيها «مهرجانات بيت الدين» ببرمجة لا تقل تواضعاً كمّاً ونوعاً، تتألف من ثلاث أمسيات فقط وتمتد على أربعة أيام فقط. المقدِّمة التي تستهلّ مقالتنا عن «بعلبك»، تصلح أيضاً هنا (راجع «الأخبار» عدد نهار الجمعة الفائت)، على اعتبار أن المهرجانَين متساويان، تقريباً، في الوزن لناحية ماضيهما (تحديداً مرحلة ما بعد الحرب)، وكذلك في المصير المؤسف وأسبابه، مع اختلاف واحد هو أنّ «بيت الدين» فَتَح أمسياته مجّاناً للعموم، في خطوة منطقية تقوم على حقيقتَين: أولاً، الوضع الاقتصادي الذي لا يعطي شريحة كبيرة من المقيمين في لبنان ترف شراء بطاقة حفلة موسيقية، وثانياً، الحفلات بحد ذاتها ليست من العيار الذي يحتمِل بطاقات بأسعار سياحية، وهي أساساً من النوع الذي يُقام مجّاناً (أو مقابل بدل رمزي) في المدينة، بشكل مستقل أو ضمن تظاهرة فنّية (مهرجان «بيروت ترنّم» مثلاً). على أي حال، بقاء هذه الأنشطة على قيد الحياة، رغم التراجع الكبير في البرمجة، يبقى أفضل من «تَصفِيتها» بدمٍ بارد. إنه تذكير بانتظار النهوض، الذي، إن تأخّر، لن يكون المطلوب مستقبلاً سوى المحافظة على هذا التذكير.افتتاح «بيت الدين» الليلة تتولاه فرقة Les Cordes Résonnantes (الأوتار الرنّانة) وهي مجموعة متخصّصة في موسيقى عصر الباروك، وقوامها الآلات الوترية (حوالى دزّينة من عائلة الوتريات بكل أفرادها) بالإضافة إلى الهاربسيكورد (لزوم الـbasso continuo، أو الحصيرة الصوتية الخاصة بذاك العصر).
المجموعة حديثة نسبياً، فقد تأسست عام 2018 (يقودها جو ضو)، وقدّمت أمسيات عدة في لبنان، تمحورت حول أعمال آلاتية معروفة وأخرى غنائية (أبرزها Stabat Mater، العمل الشهير للإيطالي بيرغوليزي). في الواقع، هذه المبادرة تستحق الثناء والتشجيع. هذا لا شك فيه، لكن مديحها المجاني هو بمثابة هدية ملغومة. لنقُلها بحب وصراحة: هذه المجموعة هي، في فئتها، الأفضل محلياً… ومِن الأضعف عالمياً. ليس الهدف تخطّي عشرات الفرق الإيطالية والإنكليزية والهولندية والفرنسية (حيث الأعاجيب في مجال أوركسترات موسيقى الباروك)، لكن المطلوب عدم النظر إلى هذه المجموعة اللبنانية الناشئة كأنها بالمستوى الأوروبي الرفيع، لأن ذلك لن يسمح لها بالتقدّم نحو ذاك المستوى. نعتقد أن المشكلة الأساسية في الفرقة ليست مستوى الموسيقيين ولا شغفهم، بل الآلات نفسها. فجملة موسيقية ما، بأنامل العازف ذاته، على آلة جيدة، تكون أفضل بأضعاف. هذه مشكلة يمكن حلّها تدريجاً، علماً أنها مُكلِفة جداً.
على برنامج الفرقة، وهنا المفارقة في مشاركتها في «بيت الدين»، القليل من الباروك والباقي يطال حقبات أخرى من الكلاسيك الغربي، وصولاً إلى المعاصر، بالإضافة إلى بعض التيمات من أنماط قريبة قليلاً من هذه الأجواء، مثل الموسيقى الأوركسترالية التصويرية الآتية من السينما العالمية. القاسم المشترك بين ما اختارته الفرقة من عصر الباروك (بورسيل، فيفالدي وهاندل) ومن العصور اللاحقة (سان-سانس، بيزيه، بوتشيني، غرشوين، برنشتاين،…) وموسيقى الأفلام (زيمر، موريكونه،…) وغير ذلك، هو شعبية العناوين، كلٌّ في فئته ولدى جمهوره. هذا ما يوسّع دائرة جمهور الأمسية، التي تصبح بالتالي غير موجّهة لـ«المتطلّبين» من السمّيعة.
تقدّم فرقة «الأوتار الرنّانة» القليل من الباروك والباقي يطال حقبات أخرى من الكلاسيك الغربي، وصولاً إلى المعاصر


بعد استراحة ليوم واحد، أمسية (15 تموز/ يوليو) لعازفة العود والمغنّية المتخصّصة في الموسيقى الشرقية والصوفية والطرب الأصيل دالين جبّور، وهي من الأسماء القليلة المتمسّكة بهذا اللون والمتمكّنة منه في لبنان. في أمسية مشابهة قليلاً للجو العام لافتتاح «بعلبك» مع سميّة بعلبكي، تؤدّي دالين مع فرقتها باقة من كلاسيكيات الريبرتوار الطربي الأصيل والشعبي، مستعيدةً عناوين لنجاة الصغيرة وفايزة أحمد وأسمهان ونور الهدى وأم كلثوم وفتحية أحمد وسيّد درويش وغيرهم.
في اليوم التالي لأمسية الطرب مع دالين جبّور، تصل «بيت الدين» إلى آخر مواعيدها الفنية لهذا الصيف. إنه الختام (16/7). فأي مهرجان له افتتاح وختام. والختام، بعد سلخٍ عنيف لعبارة «مِسك» عنه، يحمل توقيع مُرَوِّض البيانو وهاري مفاتيحه ومُدَبِّس مطارقه ومُعَذِّب أوتاره ومُمَرمِغ دوّاساته ومحطِّم فؤاده: غي مانوكيان. أعان الله الحياة، من ورود وأشجار ومخلوقات مجهرية وصغيرة وكبيرة في أحراج بعقلين ووديانها، على هذه الليلة.

* «مهرجانات بيت الدين»: بدءاً من الليلة حتى 16 تموز (يوليو) ــ بيت الدين (الشوف) ـــــ beiteddine.org