تأتي التجربة المغربيّة في الكتابة جزءاً من حالة عربيّة أكبر ما زالت تحفر في سؤال الكتابة والتجريب. صوت محمد سعيد إحجيوج القادم من المغرب هو صوت تجريبيّ، يحاول تعزيز القدرة على تخطّي تقنيّات الكتابة الروائيّة ويطرح شرعيّة البحث عن آليات سرديّة جديدة بجرأة المراوحة في الأسلوب بين المغامرة وسؤال التلقّي والمسؤوليّة الناقدة للواقع. محمد سعيد إحجيوج، الذي اختيرت روايته «أحجية إدمون عمران المالح» (دار «هاشيت أنطون» ـ 2020) أخيراً على القائمة القصيرة لـ «جائزة غسّان كنفاني 2022»، من مواليد طنجة عام 1982. أصدر قبلاً مجموعتين قصصيّتين، «أشياء تحدث» (2004) و«انتحار مرجأ» (2006)، وفاز قبلاً بثلاث جوائز شعرية. كما أصدر مجلة «طنجة الأدبية» (2004-2005) وعدداً من المشاريع الأدبية والثقافية. صدرت له في القاهرة، عام 2019، نوفيلا «كافكا في طنجة» وفاز مخطوط روايته «ليل طنجة» بـ «جائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة». صدرت له حديثاً «ليل طنجة: الرواية الأخيرة» عن «دار العين». معه، كان هذا الحوار حول أسئلة الكتابة الراهنة من خلال تجربته الروائيّة.

تكتبُ بحثاً عن الأسلوب وتحفر فيه بشجاعة. أنت من هذا الجيل المغاربيّ الجديد الذي يتمدّد في جغرافيا الكتابة الجديدة. ما هي التحديات والمخاطر التي تواجهها هذه الكتابة في المشهد المغربي الأدبي، على مستوى الكتابة نفسها، القراءة، والتلقّي العامّ والنقديّ؟
ــ التحدي، وبالتالي الخطر، هو أن التجريب سلاح ذو حدين. سيف بتّار لا يمكن اللهو به بعين مغمضة، فأي خطأ يعني الموت فوراً. المشكلة الأكبر التي يواجهها التجريب على مستوى الكتابة هي على مستوى التلقي العام وحتى النقدي الذي يبقى في كل مقارباته سطحياً لا يملك الأدوات ولا الشجاعة للغوص عميقاً. ما زال القارئ يبحث عن الحكاية الصرفة التي تبدأ بـ«كان يا ما كان»، وتنتهي بـ«وعاشا في ثبات ونبات». والقارئ، العربي تحديداً، ما زال يبحث عن اللغة الشعرية الفخمة، ومتى ما حضرت اللغة الفخمة أو الحدّوتة الحلوة، فالقارئ يضيف الرواية إلى مصاف الأعمال العظيمة مهما تكن الهفوات الأدبية وغير الأدبية، الحِرفية وغير الحرفية، التي يزخر بها النص.
تنطلق الكتابة الجديدة من وعيها بلايقين الحياة. لا يقين في هذه الحياة ولا حقائق مطلقة. لكنّ القارئ العام لا يستوعب ذلك. لا يريد نصاً مفتوحاً على التأويل، ولا نصاً يتفجر بالأسئلة ولا متاهة سردية عليه خوضها بكامل إرادته الحرة بدون مساعدة إلهية كلية المعرفة. هو يقرأ لأنه يريد جواباً جاهزاً يلوكه. هذا هو التحدي الذي أواجهه خلال حفري الدائم في الأسلوب: لمن أكتب؟ إذا كان القارئ غير مهيّأ لاستقبال هذا النص؟ الإيغو يريد دفعي حتماً للاستجابة لمتطلبات السوق للكتابة لأكبر شريحة من القراء والإفادة من النجاح الجماهيري. الأمر مغرٍ حقاً. لكنّي أقيد تلك النفس الأمّارة بالسوء. أكتب أولاً لأنّي أستمتع بالكتابة. ورغم إدراكي لسلطة الكتابة ومخاطرها، إلا أنّي أدرك أيضاً استحالة تغيير أفكار شخص ليس مستعداً داخلياً لأن يتغيّر. لذلك ليس هدفي حالياً استهداف جمهور كبير. عدد قليل من القراء المتحمّسين يكفي.

في عام 2002، تحصل على «جائزة مسابقة الإبداع الشّعري» في المغرب، ولا تعودُ إلى الشعر بعدها. هل يُعقَل أن يكون الشّعر رحماً للروائيين في شبابهم؟ أسألك وأتأمل تجارب جويس، همينغواي ،بيكيت، أوستر وعشرات غيرهم. ما هذا المشترك بين عالمين متناقضين ومع ذلك تربط بينهما غواية الشعريّة وربّما أشياء أخرى، من خلال تجربتك؟
ـــ لعلها هرمونات المراهقة ليس إلا. خلال مرحلة بدايتي مع الكتابة، كتبت القصة القصيرة أيضاً، بجانب الشعر (أو ما أحسبه شعراً) الذي كانت له الهيمنة. ما السر؟ على الأرجح طبيعة قراءتي، وفق الكتب المتوافرة. كنت أقرأ آنذاك الشعر أكثر من القصة، وأكثر بكثير من الرواية (كانت قراءتي للرواية في تلك الفترة محصورة بأدب المغامرة، والخيال العلمي والجاسوسية). نزار قباني بطبيعة الحالة كان يفرض وجوده في تلك الفترة العمرية. انتفاضة الحجارة الثانية فرضت شعر محمود درويش (ومعه أغنيات مارسيل خليفة). الأيام الأخيرة من حكم الحسن الثاني أتت معها بقصائد مظفر النواب وأحمد مطر نتبادلها خلال الحصص الدراسية. لا أعرف شيئاً عن الغواية الشعرية لدى الآخرين، لكن بالنسبة إليّ الأمر كان محصوراً بمدى تعرّضي للشعر آنذاك مقابل الأجناس الأدبية الأخرى. يكفي دلالة على ذلك عناوين قصائدي الثلاث التي تُوجت بثلاث جوائز: «انتحار المتنبي في رماد الحلاج»، «أغاني محمد الدرة»، و«انكسارات الحلاج».
تنطلق الكتابة الجديدة من وعيها بلايقين الحياة


التجاوز والتجريب ومراجعك في الكتابة الروائيّة. مسخ كافكا، مصادفات أوستر وألعابه السردية، الفانتاستيك والعبث والكتابة داخل الكتابة، الالتفات إلى القارئ، المسخ كتناصّ ومسخ المسخ، دفق السرد وغيرها... استنبات وتجريب في أبهى تجلّياته. تعددية وتوحيد لأشكال غير متجانسة في العمل الروائيّ. أيّ قناعات تزعزع وإلى أين تمضي بهذه الزعزعة؟
ــــ لا يمكنني إغفال الجانب الترفيهي الصرف للكتابة، لكن ما الكتابة سوى أداة للمساءلة؟ أليست الكتابة نفسها، بحدّ ذاتها، فعلاً ثورياً ضد احتكار المعرفة والحقيقة؟ أليست الكتب الدينية (السماوية على الأقل) ثورة ضد المقدّسات الوثنية قبل أن تصير هي نفسها مقدّسات وثنية؟ أليس هذا الوجود تمظهراً خارجياً لفعل الكتابة، وإن بشكل آخر، إذ قال الرب كلمته «كن» فكان العالم وكنا فيه؟
في مرحلة ما، يتوقف الإصلاح على أن يكون حلاً. في مرحلة ما، لا يغدو إصلاح وتقويم وسد ثغرات البناء حلاً. في مرحلة، ما يصير الهدم أساسياً قبل إعادة البناء. ما أنطلق منه، من خلال الكتابة وعبرها، هو توجيه النظر إلى استحالة التقدم إلى الأمام ونحن مثقلون بالمقدّسات و«الحقائق» التي لا يمكن تكذيبها. ما أريد قوله بأن لا حقيقة مطلقة يجب التسليم بها فقط لأنها موروثة. من منطلق ديني محض، الكفار في الإسلام في مهد الدعوة كانوا يقولون: هذا ما وجدنا عليه آباءنا. وهذا ما صرنا نقوله نحن أيضاً على امتداد سنوات تخلّفنا. لا أحاول زعزعة أي قناعة، بل كل القناعات، تفكيكها وإعادة التفكير فيها من الصفر. تصفيتها وغربلتها. لا حقيقة مقدّسة، ويجب التفكير في كل الموروث وكل ما نعيشه. بل حتى الذاكرة نفسها لا يمكننا الركون إليها، إلى صدقيتها.

كائناتك الروائيّة في حالة مواجهة. مجهدة وقلقة وفي حركة شكّاكة متشكّكة من نفسها وما حولها. تضعها موضع الشّك من تصوراتها الخاصّة. أتأمّل معك «سؤال المصير» المشكوك فيه في واقع متهافت متحوّل يحتاج إلى انتزاع من بيئة ثابتة آمنة باتجاه اللاحتميّ.
ـــ لا يبدو أن البشرية تتعلم من أخطاء الماضي. ورغم أن الزمن يتقدم نحو الأمام، إلا أنّ ثمة لعنة سحرية تجعلنا أسرى دورة زمنية من التكرار غير المتناهي. دورة الأوبئة والمجاعات والحروب. بقدر ما يبدو أن البشرية تتقدم إلى الأمام في جوانب محددة، فإنها تظهر في جوانب أخرى أسيرة ظلام الماضي. الديكتاتورية مثلاً وفشل التجمعات البشرية في القضاء على حتمية ظهور الديكتاتور؛ ديكتاتور قد يقود شعبه إلى الموت جوعاً أو الموت تحت القصف أو التشتت عبر صقيع العالم. أما إن كان الديكتاتور على رأس دولة عظمى، فخطر إطلاق حرب عالمية يبقى محتملاً في أي لحظة.
أمام هذا اللاأمان، والتقلبات اللحظية التي تقتل أي حتمية، تقتل أي تخطيط متفائل للغد، كيف عسانا لا نكون إلا شخصيات مهتزّة قلقة تعيش في خوف دائم؟

في روايتك «ليل طنجة»، يبدو المكان (طنجة) حلبة صراع، فضاء عنيفاً، مغتصِباً للحريات، مفتوحاً على التعدديّة، قاتلاً للمتعة، محفّزاً على الملل، على الحركة، على الهجرة والانزياح في هوامشه وفي قلبه. هل المكان هنا استعارة العالَم، وأنت توسّع احتمالات وجوده وتأويلاتها؟
ـــ يكشف لنا مبدأ تأثير الفراشة قدرة التغييرات الصغيرة، الدقيقة، مثل رفرفة جناحي فراشة، على إحداث تغييرات متراكمة على امتداد طريق تنقلها، كأن تتحول تلك الرفرفة إلى إعصار مدمر على بعد آلاف الكيلومترات. وسائل الاتصال الحديثة عزّزت هذه القدرة. من جهة، تضع ما يحدث في أي مكان من العالم أمام أنظار كل الناس، ومن جهة أخرى، تجعل أي زعزعة في استقرار منطقة ما تغطي تأثيراتها كل العالم. من دون وسائل نقل سريعة، لن يكون ممكناً نقل الغذاء والأدوية بين حدود الدول بالقدر الذي تتطلبه الحاجة، لكن أيضاً، من دون وسائل النقل تلك، ما كان يمكن لكوفيد-19، أن ينتقل من الصين إلى العالم خلال أسابيع ويوقف الحياة البشرية في كامل الكوكب.
ما عاد سهلاً إيجاد مكان منعزل في هذا العالم الذي صار قرية كونية (إلا إن كنت مليونيراً)، وطنجة كما أي مكان آخر فقدت لمستها المحلية، بصمتها الخاصة، وصارت كما أي مكان آخر في العالم. الصراع الذي يحدث هنا، العنف اليومي، لا يحتاج إلى استعارة ليتمثل العالم أو يتمثله العالم. يبقى الاختلاف في الدرجة بين ما يحدث هنا، وما يحدث في أي مكان آخر.

ما هي الرهانات في رأيك، اليوم، في عالم الرواية القصيرة المكتوبة بالعربيّة مقابل تلك العالميّة: رهانات الكتابة وأفق التواجد الموازي للرواية اليوم؟
ـــ الكاتب العربي اليوم مصاب بالثرثرة. أن تكتب رواية قصيرة محكمة يعني أن تسيطر على أفكارك، أن تستوعبها جيداً، أن تعبر عنها بالدقة المطلوبة لا أكثر ولا أقل. تلك الفصاحة تتطلب شرط الاقتناع وشجاعة الدفاع. الكاتب العربي، المخنوق بالسلطة الأمنية والقهر الاقتصادي، لا يملك شجاعة الدفاع، التي هي في جوهرها شجاعة الاختلاف، وقبل ذلك وبعد ذلك ما عاد يملك، العربي عموماً، سلام الاقتناع بقضية ما. القضية الفلسطينية نفسها، التي يعتبرها العربي أمّ القضايا، صارت قضية شكلية، مشجباً لتعليق الهزائم، ركن الخطابة في هايد بارك، ليس أكثر.
زمن القضايا الكبيرة انقضى ومَلكة الفصاحة ذوت. هذا زمن الثرثرة: أطول برج، أضخم طبق كسكسي، أكبر عَلم، أدكن زبيبة صلاة، أطول لحية، أضخم رواية.... الشكل الخارجي تسيّد. حجم الرواية صار دليلاً على براعة كاتبها، بغضّ النظر عن أطنان الشحوم فيها وأكوام الحشو.
أكرر، رهان الكتابة اليوم هو مواصلة الكتابة. ما على الكاتب «الجاد» إلا أن يواصل الكتابة، دون توقع أي معجزة، وأن يواصل تشجيع القارئ على التساؤل حول مسلمات الحياة، وأن يرسم البسمة على وجه القارئ يخفف عليه، ولو قليلاً، ولو مؤقّتاً، من بؤس الحياة.