تعيش إيفيت أشقر (1928) في عالمها الخاص. منزلها في منطقة رومية، هو جزء من محترفها، لا العكس. استقبالها لك بابتسامة شفّافة اكتسبت مع العمر طراوةً ومزيداً من الطيبة والكرم والحبّ. تصافحك بلطف ما بعده لطف، وبحرارة نابعة من قلب فنّانة كبيرة هي في الرابعة والتسعين اليوم. هذه المرأة المميّزة، قصيرة القامة، مشعّة العينين، بهيّة الابتسامة، صنعت مع الكبار من أمثالها (شفيق عبّود، فريد عواد، ميشال بصبوص، جان خليفة، سعيد أ. عقل، بول غيراغوسيان، إيلي كنعان، نقولا النمّار...) حركة الحداثة في الفن التشكيليّ اللبنانيّ في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً ضمن صرح «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ALBA) حيث برزت تيارات ما بعد الانطباعية في لبنان.
إيفيت أشقر: بيروت أمست فارغة، مدينة افتراضيّة، كأنّها حيّز لتفريق الناس لا لجمعهم

إنّها اليوم من آخر أركان الواجهة الثقافية والفنيّة للمدينة، منذ أكثر من نصف قرن، كوّنتها الاختبارات والتجارب والفرادة التشكيليّة، بعيداً عن ضوضاء المدينة وفي أحضان الطبيعة. وبحسب نظرتها ويقينها أنّ الفنّ لا يموت كما لا يعرف عمراً ولا طفولةً أو شباباً أو شيخوخة أو مرضاً أو موتاً. ما برحت إيفيت المشعّة فكراً وعشقاً للفن، تقرأ وتسمع موسيقى. بالنسبة إليها، الفنّ أسلوب حياة ونهج كينونة وليس موسماً عابراً. وعلى رغم الجسد الذي أنهكه العمر، وبعض الوهن والمرض والكسور وأيّام الوطن الصعبة، تجري الدماء حارّة في عروق جسدها الضئيل، ناقلاً حرارته إلى لوحاتها. انتهى مشوار إيفيت الفنّي الذي امتدّ نحو ستّين عاماً، إذ تعيش اليوم في حالة اعتزال وعزلة في بيتها حيث تنتظر «قدرها» على حد تعبيرها. يكفي أنّ يدها تخونها، فلم تعد قادرة على التحكّم بريشتها وملوانتها لإنجاز لوحة جديدة. التقينا الرائدة والمعلّمة أخيراً، فكان هذا الحوار:

ألا تخرجين من منزلك اليوم؟
ـــ ‏لم أعد أستطيع الخروج من المنزل. إنّي في حالة العجز. يدي خانتني ولا أنتظر في عمري هذا سوى الموت. بات مفترضاً أن أرحل. حتى يدي اليسرى لم تعد تسعف في مساعدة يدي اليمنى..إني سعيدة برؤيتك. لم يعد أحد يسأل عني أو يزورني. ساعدت الكثير من الفنانين ومن تلاميذي، ولكن لا أحد يتفقّدني.

من دون عنوان (زيت على كانفاس ــــ 150 × 100 سنتم ــــ 1983)


ثمة ملصقات في أعمالك
ـــ كلاّ، إنّما توحي أنّها ملصقات. هنا تكمن قوّة اللوحة.

كيف تمضين أوقاتك راهناً؟
- أستمع إلى الموسيقى، أقرأ كثيراً وأنام أكثر، لم أعد قادرة على الرسم.

والوطن ماذا أعطاك؟
ـــ أعطاني لبنان الكثير .

أعيدينا إلى محترفك في الـ «ألبا». أودّ معرفة ما كانت عليه طبيعة الأمور عهد ذاك؟
- ما كان يوصف بالمحترف إنّما كان في الواقع قاعة فسيحة إلى حدّ ما مؤهّلة لاستقبال ثلاثين تلميذاً في الفنـون التشكيلية، من مختلف المستويات التعليميّة التي كانت تخضع لنظام واحد تقديماً للمعارف المهنية والفنيّة. كنّا نتعاون مثل طلّاب فنّ في ما بيننا. الأعتق فينا ينبّه الجديد إلى هفواته، ومن يبلغ مرتبة يشعر عندها بأنّه قادر على الانطلاق في مسيرته الذاتيّة، يخفّف من حضوره في المحترف حتى الانقطاع التامّ .

«من دون عنوان» (مواد مختلفة/ كولاج ـــــ 48 × 45 سنتم ـــ 2015)


وماذا عن الأساتذة الكبار؟
- لدى دخولي الأكاديميّة كانوا ثلاثة، قيصر الجميّل الذي لم أكن أحبه وكان مدير المحترف، يعاونه كلّ من نقولا النمّار وفرناندو مانيتي الذي شجّعني على الرسم. الجميّل هو مؤسّس المحترف، في حين كان اهتمام «ألبا» الأكبر هو الموسيقى، أي اهتمام ألكسي بطرس الأساسيّ، وهو منشئ الأكاديميّة هذه. من خلال نصائح هؤلاء الثلاثة، وبخاصة مانيتي أستاذ الرسم، تمكنّا من تحصيل الركائز الأكاديميّة المعتمدة آنذاك.

‏هل كنتم تأملون في الأربعينيات من القرن الفائت في تحويل الرسم والنحت إلى مهنة للعيش؟
ـــــ كنّا نحبّ الرسم للرسم، ولم يكن وارداً في أذهاننا البتّة أنّ اللوحة أو المنحوتة سلعتان تجاريتان. لم تكن هناك غاليريات لفكرة استهلاكية مماثلة.

ماذا عن الوقوف أمام القماشة البيضاء؟
ــ لا أزال، إلى اليوم، كما كنت قبل ‫نصف قرن، أشعر بالرهبة ذاتها تتملّكني لحظة وقوفي أمام بياض اللوحة. تمثّل اللوحة خطراً لي. أنا المطاردة ولا أدري إلى أين أروم المضيّ بها. أشعر بأنّ عليّ صنع اللوحة وصنع نفسي في آن واحد. من خلال ذاك المجهول العميق الذي يدعى القماشة البيضاء، تحضر الأشكال، تتطوّر، تختمر وتغادر في إيقاع سرّي يؤثر الفنان تركه سرّياً لناحية قوّة الجاذبيّة التي يخلّفها في المعنى وفي الوجه الخفيّ لنموّها وحركتها وإيقاعها. كلّما أقدمت على الرسم، أحسّ بأنّني أرسم للمرة الأولى. أبتدع نصّي، أغذّيه بمشاعري وأفكاري وأحلامي، ويحصل ما يحصل. تولد اللوحة وتغادرني لتدخل مجال قراءة الناس لها، أكانوا اختصاصيين أو أناس عاديين. أنا عين بريئة أمام اللوحة البيضاء، كالتي تقول أنا امرأة بيضاء لا حدود لشيء لديّ. العجينة اللونيّة الزيتيّة أنثويّة، شهوانيّة، تتمايل في دلال من غير أن تعرف نهاية. إن بدأت الأحاسيس لا تنتهي. لا إبداع حيث لا ذوبان للفعل الإبداعي في العيش، في الحياة، في الإنسان. أمّا أنا فلا علاقة لي بالناس. أحيا في زاويتي، في محترفي، على نحو متقشّف، وملتمّ على الذات. ربما لأني حسّاسة جداً، أنانيّة جداً، متعجرفة قليلاً. إنها أمور تدفعني إلى تلافي الناس كي لا أصاب بجروح منهم. الفن جروح في باطن الفنان. لو أردت الاختصار أقول: الرسم لديّ حكاية شغف وكثافة مشاعر واقتحام متمهّل لبواطن ما أجهل في بنيتي الذاتيّة. الفن مشروع يستلزم أكثر من حياة واحدة.

هل العزلة هي ثمن العمر والشهرة؟
- الفن عزلة في الأساس. إنّه اختيار متقشّف للطريق الصعب نحو الذات. لكنها عزلة وسط الفرح والاطمئنان التامّ. الحياة سريعة العطب، والمشاعر متحرّكة كالرمل، والناس مثل البحر في الشتاء. مع ذلك، أشعر بسكون داخليّ غريب، كمن ينتظر الرحيل. هناك رضى بقدر ما فيه حذر. خيانة يديّ كلفّتني تعباً وجهداً وإضاعة للوقت. خارج محترفي لا آبه للشهرة. كلّ ما نلته لم أسع إليه. الرسم كان لي فعلاً حميماً، خاصاً، ذاتيّاً. أردت دوماً أن أكون امرأة كاملة أولاً وأخيراً، وهذا ما بنيته رسماً.

كيف تنظرين اليوم إلى المدينة التي أمضيت فيها كلّ مراحل حياتك؟
- كانت شيئاً وأصبحت شيئاً آخر مختلفاً. كانت مدينة حيّة، تعيش، تنبض حياةً، وكان الناس يتفنّنون في عيش مدينتهم. كان بلداً جميلاً ذا روح، أمّا اليوم فتبدو بيروت مرتدية ثوب حزنها ولا أشعر بدقّات قلبها لأنّ في قلوب الناس جروحاً من كل نوع. الكذب يسود، لا وفاء، لا أحد يتفقّدني، حتّى الذين أعطيتهم من فنّي وتعبي. المدينة أمست فارغة، فارغة، فارغة. بيروت اليوم هي مدينة افتراضيّة، حالة افتراضيّة، كأنّها حيّز لتفريق الناس لا لجمعهم. ما عاد الناس يلتقون. الجميع أضحى وحيداً، غائراً في ذاته. بيروت زمن ذاك كبرت وتفجّرت وتحوّلت. العالم كذلك وأنا أيضاً.


في سطور
ولدت إيفيت أشقر في ساو باولو في البرازيل، وواصلت تحصيلها الفنّي عام 1951 في «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» (ألبا) التي أصبحت مدرّسة للفنون التشكيليّة فيها، فضلاً عن كلية الفنون في الجامعة اللبنانية. عرضت أعمالها في ألمانيا وإيطاليا وباريس وروما ويوغوسلافيا، إلى معارضها الكثيرة في لبنان. شاركت في أكثر من بينالي مثل الإسكندرية وبغداد وباريس وساو باولو وكذلك في المعارض الفنية الدولية. نالت العديد من الجوائز، بما فيها جائزة منظمة اليونسكو العالمية، عدا جوائز بعلبك ووزارة التربية والتعليم والفنون الجميلة الوطنية في لبنان. عرضت أعمالها مراراً في «غاليري جانين ربيز» في بيروت منذ عام 1993 حيث يمكن رؤية أعمالها معلّقة على نحو مستمّر إلى اليوم.