نضج مسلسل «الفتية» (2019ــــ 2022 إخراج نيلسون كرايغ) كثيراً في موسمه الثالث. المسلسل الذي تنتجه شركة «أمازون» وتقدّمه عبر شركتها للبث الرقمي «أمازون برايم»؛ احتاج إلى موسمين كي يصل إلى ما يريده بشكلٍ مباشر: تعرية الأبطال و«مجتمع السوبر هيروز» وتقديم عالم «الخوارق» بعيداً عن تخليقات شركتَي الكوميكس المعروفتين، «مارفل» و«دي. سي»، على الرغم من أن قصة الكوميكس الحالية كانت تملكها شركة «دي. سي»، وإن بتسمية مختلفة Wildstorm imprint قبل أن تشتريها شركة «ديناميت كوميكس» التي تملك حقها الحصري اليوم. تسعى الشركتان الكبريان في هذا المجال إلى تقديم أبطالٍ خارقين: طيبين، حنونين، رؤوفين، عائليين؛ على رأسهم «سوبرمان» و«كابتن أميركا». «الفتية» والكوميكس الذي أتى منها للمؤلفَين غارث اينيس وديريك روبرتسون، يختلف اختلافاً جذرياً عن ذلك: إنهم خارقون «أوغاد» بكل ما للكلمة من معنى. حتى البشر الذي قدموا لإيقاف طغيان «مدّعي» البطولة هؤلاء هم من الطينة «القذرة» عينها.

القصة هنا، مشابهة لأي عالم أبطالٍ من أي قصة كوميكس: أشخاصٌ يمتلكون قوى خارقة يستخدمونها ـــ بحسب الظاهر ـــ لإنقاذ البشرية، ومساعدة الناس العاديين (ممن لا يمتلكون أي قوى). باختصار هذه هي القصة الكلاسيكية المتكررة والمعتادة: كما لو أنها «ليلى والذئب». لكن في هذا العالم، ليلى ليست طيبةً أبداً، بل إنها أكثر وحشية وشراً من الذئب نفسه. «هوم لاندر» (أنطوني ستار) البطل الأميركي التقليدي، آري الأصل، أبيض الملامح، أشقر الشعر: إنه نسخة عن «سوبرمان» الأميركي؛ لكنها هنا معكوسة. يحوي «هوملاندر» كل الشر الموجود في العالم، فضلاً عن العيوب التي كبّرتها وضاعفتها قواه الخارقة. إنه غيورٌ جداً، مستعدّ أن يقتل لمجرد شعوره بالغيرة. يغضب لأقل كلمة، متنمّر على زملائه الأبطال، قادر على التوحش والقتل بسهولة بالغة؛ حتى إنه يفتخر بهذا التصّرف ويقوله علانية. ماذا عن الملكة «مايف»، نسخة «ووندر وومن» (المرأة الخارقة) في هذا الكوميكس والمسلسل؟ إنها في الكوميكس مدمنة كحول، بلا أخلاق، يائسة بشكل دائم، فضلاً عن كونها متنمّرة. في المسلسل، تتطوّر شخصيتها أكثر، لكنها تحافظ على الصفات نفسها بشكلٍ أو بآخر، وإن أعطوها «طَبعاً أكثر لطفاً وطيبةً» لأنهم لا يريدون إثارة غضب مجتمع «الميم» بتقديمها شخصية شريرة كونها مثلية.
هذا بالنسبة إلى الخارقين، فماذا عن «المُنقذين»؟ بوتشر (كارل أوربان) عميل مخابرات، هدفه الوحيد القضاء على الخارقين؛ لكنّه في الوقت نفسه نسخة حرفيّة عنهم كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: من يقاتل الوحوش، عليه أن يحذر كي لا يصير واحداً منهم. طبعاً بوتشر، لا يخشى ذلك، بل يحبّذه، خصوصاً مع اكتشافه عقاراً تجريبياً يمكّنه من الحصول على قوى خارقة. بوتشر هو نسخة «هوملاندر» بشرية بكل بساطة. في الإطار عينه، يصبح «هيوي» (جاك كوايد) بطل المسلسل، البريء والطيب، شيئاً فشيئاً، نسخةً متأثرةً ببوتشر. لقد جرّب «عقار القوة»، وأغراه الأمر: لقد استطاع أن يقتل، وصار يكذب ويغدر. من يشاهد المسلسل، يمكنه ملاحظة الكم الهائل من «السواد» لا في نفسيات الأبطال فحسب، بل في الجو العام أيضاً. إنّه Parody عن عالمنا الحالي بشكلٍ أو بآخر: عالمٌ تسيطر عليه الشركات الكبرى، تحرّكه كيفما تريد، وتستخدم الخارقين والعاديين في سبيل تحقيق مكاسب أكثر لأصحابها.


فشركة «فويت انترناشيونال» ليست مجرّد شركة تتحكّم بالخارقين، بل إنها تعرف كيف تستخدمهم وتستفيد من مواهبهم، فتعيرهم مثلاً للدول كي يخدموا في جيوشها، تجبرهم على المشاركة في المهرجانات المختلفة، والإعلانات التلفزيونية مهما كان نوعها: من الفوط النسائية إلى حفاضات الأطفال وصولاً إلى الساعات السويسرية الفخمة. إنه عالمٌ استعراضي وهمي تستعمل «فويت» كل قوتها للحفاظ عليه: فمثلاً إذا قام خارقٌ بقتل إنسان أثناء قتالٍ ما، فإن فويت تستعمل كل قوتها لإخفاء الأمر وطمسه. تدفع المال وتشغّل محاميها وتستخدم الرشوة والقوة حتى إذا ما اضطرت إلى تحقيق مكاسبها. إنه عالم: Dog Eat Dog كما يقول أحد أبطال المسلسل. يستخدم المسلسل ـــ بخلاف الكوميكس ــــ الإنترنت وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير: نجد الخارقين يتأثرون بمدى إعجاب الجمهور بما يقومون به؛ يتأثرون باللايكات والـfollow والريتويت وسواها. في هذا الجزء، يضيف المسلسل شخصية «سولدجر بوي» (الفتى المقاتل/ جنسن أكليس) المستنسخة عن شخصية «كابتن أميركا». «سولدجر بوي» نسخة متعاكسة من نظيرتها من «مارفل». إنه وضيع، يكرهه الجميع، لا يثقون به، بل حتى حبيبته تكرهه وتسلمه لأعدائه.
واحدة من أقوى نقاط المسلسل هي كونه يكسر السياق المعتاد لهذا النوع من القصص. إنه مستعدٌ أن يقتل، وأن تتطاير الدماء، وحتى أن نرى مشاهد مرعبة بشكلٍ عادي كما لو أن ما حدث هو أمرٌ طبيعي. طبعاً في هذا الجزء، كسر المسلسل العديد من المحرّمات، من خلال القصة والأحداث الكثيرة كأن نعرف بأنَّ إحدى البطلات ­تمارس «الجنس أونلاين» لمشاهدين يدفعون لها مقابل ذلك. وهو ما شهدناه بشكلٍ مختلف في الجزء الأوّل حين شاهدنا خارقين يمارسون علاقاتٍ جسدية، أو أخرى «محرّمة»، فقط لأنهم يستطيعون؛ ولأنّ لا أحد يمنعهم من ذلك. يُضاف إلى كل هذا الميزانية الكبيرة التي دُفعت على كل حلقة وقاربت 11.2 مليون دولار للحلقة الواحدة. من هنا كان من الطبيعي أن يكون الغرافيكس وCGI والمجازفات الخطرة حقيقيةً إلى أبعد حد. وكما في الأجزاء السابقة، تضافرت عوامل عدة منحت المسلسل أعلى مستوى، فوجود شخصيات مثل الكاتب والمنتج الأميركي ايريك كريبكيه صاحب المسلسل الشهير Supernatural (2005-2013) الذي امتد على 15 موسماً ناجحاً؛ والممثل والكاتب سيث روغان الذي أدى ككريبكيه دور المنتج المنفذ، وغيرهما من الأسماء الشهيرة أعطت المسلسل الكثير من التوجيه والإرشادات اللازمة لنجاحه.
عالمٌ تسيطر عليه الشركات الكبرى وتستغلّ الكل في سبيل تحقيق مصالحها المالية


أدائياً، يقدّم الممثلون أداءً متوازناً، فنجد أنطوني ستار مقنعاً في دور «هوملاندر»؛ لناحية أمراضه النفسية، وهنا برزت مهارته كمؤدٍ ماهر. مثلاً في إحدى حلقات هذا الجزء، نجده في نقاشٍ حقيقي مع نفسه: للمرة الأولى في مسلسلات «الكوميكس»، نجد هذا الصراع بين «الشرير» ونفسه حيال ما يقوم به. نجد الشرير طفلاً صغيراً معنفاً، يخاف الجميع ويخشى الجميع. ليس «الفتية» أبداً مسلسلاً معتاداً. هو يطرح الصراع الأخلاقي الوجودي كنقطة أساسية له، فمثلاً إيرين موريارتي التي تؤدي دور «ستار لايت»، يُفترض أن تكون «الفتاة الحلم» البريئة، ولكن قصة هذه البطلة «الطاهرة» ليست نهائياً كما تبدو عليه: إنها فتاة استعراض عادية، على الرغم من كل قواها. فتاة استعراض أجبرتها والدتها والاستعراض نفسه على أن تؤدي رغماً عنها، وأن تخسر طفولتها خلال الطريق إلى القمة. هذه الفتاة البريئة تتعرّض للاغتصاب في اليوم الأوّل لدخولها نادي الأبطال الخارقين المسمّى بـ «السبعة الخارقون» من قبل الأبطال أنفسهم وليس غيرهم. ماذا عن جايك كوايد في دور هيوي كامبل الذي يُفترض أن أن يكون أبعد ما يكون عن التنمّر أو التوحّش بعدما تعرّض للظلم من قبل الأبطال الخارقين، خصوصاً أن القصة قامت على رغبته بالعدالة؟ أداء كوايد في هذا الجزء تحديداً، يظهر شخصيته أكثر نضجاً بعد كل ما مر به، لكنه نضجٌ يشبه الجو العام والقصة وبيئتها. لقد أصبحت الشخصية تشبه كل ما يدور حولها؛ لكنه يبرر الأمر حين يقول لحبيبته «ستار لايت» بأنه أخذ «حبوب القوّة» لأنه يرغب بأن يحميها، وبأنه «كذب عليها حين قال بأن القوة لا تعنيه». تطوّر الشخصيات بهذا الشكل، يظهر على جميع الممثلين، وليس فقط على الشخصيات. فكارين فوكهارا، التي تؤدي دور كوميكو مياشيرو أو كما تعرف من الكوميكس باسم «الأنثى» (female) تظهر «حركة» و«كلاماً» أكثر فأكثر، بعدما كانت لا تتحدّث نهائياً في الأجزاء الأولى، إلا بإشاراتٍ قليلة. تشايس كروفرد الذي يؤدي دور «العمق» (The Deep) يكمل التطوّر نفسه، فبعدما شعرنا بشخصيته المتذبذبة في الأجزاء الأولى، يظهر أكثر ضعفاً هذه المرّة. أما جنسن أكيليس، فقد أعطى بطلاً مكسوراً بعمق، مكسوراً إلى درجة لا يمكن إصلاحه، وأكيليس كممثل محبب جداً لدى كريبكيه، كونه كان بطله الأثير من مسلسل Supernatural. باختصار، كان أداء الممثلين في هذا المسلسل تصاعدياً بشكل يوحي بأنّ هناك نمطاً أدائياً جرى اعتماده منذ الجزء الأوّل.

* The Boys على «أمازون برايم»