في أيامه الأخيرة، كان أسامة الدناصوري يزور بيوت أحبائه وأصدقائه، ليقرأ لهم ما تيسّر من فصول كتابه الجديد بمجرد كتابتها. كان يجلس وسطهم ويقرأ وهو مندهش مما يكتبه. وما يكتبه كان بالفعل مثيراً للدهشة، ليس له وحده فحسب، بل لمن يسمعه أيضاً. إذ من كان يصدق أن الدناصوري يمكن أن يعود إلى الحياة عبر الكتابة، بعدما كان في عداد الموتى بسبب التدهور الحادّ في حالته الصحية؟ ومن كان يصدق أن الشاعر الجادّ الذي هجره الشعر منذ سنوات، سيدخل الآن بمنتهى الرشاقة إلى «أرض النثر»، ليكتب عن مرضه لأول مرة، كتابةً فكهة وساخرة إلى أقصى حد؟ الفصول التي كان يقرأها، وضمّها بعد ذلك كتابه الأخير «كلبي الهرم… كلبي الحبيب» (ميريت 2007 ــــ ديوان2021)، هي شذرات من حياته التي أنفق معظم أيامها بين ردهات المستشفيات، وعلى ماكينات الديلزة. كل شذرة انقلبت بفعل معجزة الكتابة إلى فصل مدهش عن فن البهجة رغم المرض العضال. إنها بهجة غريبة تلك التي تتفتح وسط الأنابيب والقساطر والبول والدماء وكلام الأطباء ورائحة المنظفات القوية. أصحاب هذه البهجة ليسوا ضحايا، ولم يفقدوا يوماً روح دعابتهم. يعيشون أيامهم في أخوية المرض بأمل ضعيف، لكنه لا يفنى أبداً.ينتهي هذا الكتاب المدهش والمؤلم بفصل يُدعى «آخر فصل»، وبه كان الراوي يتمنى أن يكتمل كتابه، بعدما قال ما رغب في قوله بخصوص سيرة مرضه. غير أن الكتاب يعود ويبدأ من جديد بعد نهايته. إذ نجد بعد هذا الفصل فصلين مجموعين تحت اسم «بمثابة ذيل»، الأول عنوانه «داليا 2»، والثاني عنوانه «سبعة أيام». كأن الكتاب لا يرغب بعد في الانتهاء، ولا يزال لديه ما يقوله. فصل «داليا 2» هو مكالمة تليفونية طويلة للراوي مع ممرضته القريبة من قلبه داليا، وهي مساعدة «مركز الهدى لغسيل الكلى» الذي تردد عليه ثماني سنوات كاملة. أما فصل «سبعة أيام»، فهو يوميات موجزة لأسبوع حالك من حياة الراوي، قاوم فيه المرض لآخر لحظة.
في الكتابة التي تلي النهاية، أي في هذين الفصلين الأخيرين، قد يريد الكتاب أن ينبّهنا إلى أن الأمل الضعيف عنيد، يولد من جديد بعد كل خيبة. إرنست بلوخ لم يملّ يوماً من التأكيد على أن أي أمل حقيقي يتأسس دائماً على إمكانية خيبته، ولا ينفيها. فالأمل ليس مجرد تفاؤل أو تمنٍّ، قد يخيب وقد يتحقق، وإنما هو مشروع لا يكتمل أبداً، ولا يُشبَع باستلام معجزة، حتى لو كانت معجزة الكتابة. وهذا ما يكشف عنه هذان الفصلان اللذان يبدآن بعدما كنا ظننا أن الرواية قد اكتملت. ففيهما يصل الراوي إلى حائط سدّ بعدما انسدّت الوصلة الداخلية، التي يمكن توصيل خراطيم ماكينة الديلزة إلى جسده عبرها. واحتمال نجاح إجراء وصلة أخرى هو احتمال ضئيل. أي أن عملية الغسيل التي يعيش عليها الراوي أصبحت مهددة، وحياته في خطر داهم. لكنه يقاوم. يتشاجر مع الممرض المستهتر ويطلب منه إرجاع دمه من الماكينة من دون إكمال الغسيل. يجد مركز غسيل آخر بناء على نصيحة داليا، ويبدأ في تنظيم حياته على إيقاع المركز الجديد، بل ويعيد التفكير في إمكانية زرع الكلى رغم فشلها في السابق. في هذين الفصلين المؤثرين، لا توجد كتابة فرحة بنفسها، وإنما كتابة تعمل بجد ودأب على مشروع الأمل.
كتب عن مرضه لأول مرة، كتابةً فكهة وساخرة إلى أقصى حد


لو كان الكتاب انتهى بالفصل المسمّى «آخر فصل»، مثلما تمنّى الكاتب، لكان توقف عند كونه قصة سعيدة لكاتب يجد خلاصه في الكتابة. لكن جمال الكتاب الحقيقي يكمن في أنه لا ينتهي بكاتب أنجز رواية، وإنما ينتهي بكاتب لا يزال يدور في قلب ورطته. نودّعه وهو يبحث عن مخرج. أسامة لم ينجُ كما نعرف، ومات بعد كتابة فصل «سبعة أيام» بأقل من شهر. وبالرغم من ذلك، فإن في كتابه أملاً يخصّنا نحن الذين بقينا بعدما رحل الكاتب. يخصنا لأنّنا كنا نقول لأنفسنا منذ البداية إن أمل الشفاء من ذلك المرض هو أمل خائب. نحن من بقينا، علينا أن نتعلم أننا كنا على خطأ في فهمنا ذاك لمعنى الأمل. علينا أن نتعلم أملاً آخر أودعه الكاتب في روايته، ولن نحسن قراءتها من دون أن نفعل ذلك. ليس هذا بأمل في الشفاء، ولا أمل في الخلاص. هذان الفصلان اللذان يأتيان بعد النهاية قد يعلّماننا أن الأمل الحقيقي هو دائماً أمل خائب وضعيف. وهذا هو مصدر قوته، لأنه لا يترك نفسه لوهم التحقق، ولا حتى التحقق الجمالي. الأمل الحقيقي هو عمل يأتي بعدما كنّا نظن أن العمل قد اكتمل، ويندفع من وراء ظهر ما نكتبه أو نقرأه بعناد، مصرّاً على رفض الانصياع لما هو قائم، مهما بدا ذلك عبثياً. إنه أمل عدميّ، ينضج ببطء على نار خيبته وفشله. هذا الأمل العدميّ الذي يتقنه «المرضى»، هو مباهجهم التي لا يعرف الأصحاء عنها شيئاً، وهو ما يمكننا أن نتعلمه من كتاب أسامة الدناصوري. وما أحوجنا إليه اليوم في زمن فيه «مصروف الأمل مضغوط».

* كاتب مصري مقيم في برلين