وسط سيل الإصدارات الروائية والشعرية التي تحفل غالبيتها بالفخر الذكوري والأدبي، لم يكن معتاداً وقتها أن تقرأ كتاباً يتحدث فيه شاعر قصيدة نثر عتيد عن مرضه وإخفاقاته المتعددة وكلبه الهرم الذي يهدهده في شيخوخته الإجبارية بمقطع هو أرقّ ما قد تتذكره يوماً حين تتعرض لإخفاق مماثل. حين صدر «كلبي الهرم... كلبي الحبيب»، كان هناك هوس بصيغة الأعلى مبيعاً. أعتقد وقتها، كان باولو كويلو قد وصلت سحابته الهائلة فوق القاهرة، وصدرت محلياً كتب عدة يتناقل الأدباء أخبار طبعاتها المتتالية، بحسد وعجب، منها الغثّ ومنها السمين، لم يكن لأسامة الدناصوري أي أعمال منشورة ذائعة. دواوينه كنت تجدها بشقّ الأنفس بعد أن تسمع عنه من أحد معارفك المهتمّين بقصيدة النثر والتأريخ لها.في هذا التوقيت، وقع في يدي الكتاب فور صدوره. كنت قد قابلت أسامة مرتين في «دار ميريت» لأنّه كان أحد أعضاء لجنة قراءة الشعر، وكان انطباعي في المرتين أنه بالتأكيد شاعر يفهم ما يتحدث عنه، لكن حين قرأت كتابه، لم أستطع أن أكبح شعوراً عميقاً بالأخوّة تجاهه. يستمر هذا الشعور إلى الآن في كل مرة أفتح فيها كتابه لأقرأ مقطعاً منه عن هذه الذكرى أو تلك. تكمن جاذبية كتاب أسامة في هذه الراحة التي يغلّفك بها الكتاب أثناء قراءة أصعب ذكرياته اليومية والمرضية، التي تنبع من قبوله العميق لحقيقة الأشياء وطبيعة القدر، بتذمّر مازح وأسى رقيق، وهو موقف خليق أن يبث في قلبك عزاءً طيباً عن همومك الشخصية، التي لا تقارن طبعاً بما عاناه أسامة. راحة أحبّ أن أصفها بوحي من الكتاب أنها تشبه انسياب البول بعد انحساره الأليم طويلاً.
لفترة طويلة، اختفى الكتاب. كان الأصدقاء يسألون عنه وعن طبعاته النادرة، ولم تتوافر نسخة «بي. دي. إف» بسهولة. في السنوات القليلة الأخيرة، طلب نسختي عدة أصدقاء، ربط بعضهم ذلك بصعود موضة الكتب غير الروائية (نون فيكشن) لقوائم الأعلى مبيعاً، لكنّ لديّ تفسيراً آخر، هناك اكتشاف جديد لكتاب أسامة يتعلق بكونه كتابةً جديدةً وحديثةً بمقاييس هذا الزمن، لم تنل حقها وقت نشرها، والآن لاقت قارئها المقدِّر. بعد سنوات طويلة، يعود كتاب ذاتي وغير «شعبي» ليتصدر قائمة مبيعات دار النشر التي قررت إعادة طباعته بغلاف بديع لمحمد صلاح. هذا شيء كان ليعجب أسامة كثيراً، وهو شاعر قلّما كان مهتماً برواج شعره، على حساب غرابته وكثافته وحريته. التفكير في مصير الكتاب نفسه يبث في النفس عزاءً كبيراً، عن كتبٍ تنال تقديرها المستحق في زمن آخر، وكاتب يقرر أن «ينساب» سهلاً وبسيطاً على خلاف أسلوبه المعتاد بكثافته وغرابته، فتحقق كتابته فنية جديدة، يشار إليها أحياناً كمعيار لما ينبغي أن تكون عليه الكتب والكتابة.

* كاتب مصري