بينَ تاريخين (1981 ـــ 2012) وحدَّين شكليَّين، تراوح هذه المختارات الشعرية: بين القصيدة النَّهرية، القصيدة/ الديوان، التي صنعت لحسن عبد الله اسماً وسِمةً وسطَ ظاهرة شعراء الجنوب وفي الشعر العربي، مع «الدردارة» (كانت البداية ذات الملامح غير الواضحة) وديوانه الأخير «ظِلُّ الوردةِ»، المتشظِّي في شكل مقاطعَ صغيرة؛ تكاد تكون اللعبة اللغوية وبناء الصورة والمعجم والتَّواشجُ مع عناصر الطبيعة هي هي. ما بدأ لغةً ملحميَّةً هادرةً يجمعها خيط غنائيَّة ريفية تتوسَّلُ كَلِماً مادياً طازَجاً في فضاءات واقعية تجعل القصيدة رحلةً في زمكان الأشياء وتحوِّلاتها وتوصيفاتها السردية. تحوَّل في الديوان الأخير إلى تأمُّلٍ شَذَرِيٍّ ينطلق من مشهديات ماديَّة وحِسِّيَّة، في تَقْتِير لغوي بالغ، يُنِمُّ عن اكتمال العدَّة الشعرية ونضج مشروع الكتابة. فإذا استثنينا تأتأة البدايات، لنا أن نقول: كتب حسن عبد الله القصيدة نفسَها، بينَ إنشادٍ متقطِّعٍ وتشذيرٍ تأمُّلِيٍّ. ستصمدُ «الدردارة» طويلاً، في تاريخ الأدب، كذاكرةٍ للجنوبيين في آلامهم وآمالهم.
I. الدّردارة، 1981

الماء يأتي راكباً تیناً وصفصافاً
يقيم دقيقتين على سفوح العين
ثمّ يعود في سرڨیس بيروت - الخيام
سلّم على... سلّم على...
يا أيّها الماء التحيّة
أيّها الماء الهديّة
أيّها الماء السّلام
سلّم على... سلّم على...
وعلى الّذي في القبر
واسقِ القبر
واطلع وردة بيضاء فوق القبر
واجعل أيّها الماء النّهار مساحة مزروعة جزراً
وطير راكض تحت الشّتاء
وإنّني في الصّيف... من عشرين عاماً
أفعى على برّ الخيام
وضفدع في الماء
والدّردارة
عين رأت حلماً وفسّره المزارع لوبیاء
■ ■ ■
وهي الفضاء وقد تجمّع في إناء السّاحرة
وهي القرى اضطربت على قمم التّلال
هي القری انقلبت
وظلّت عامرة
في صفحة الماء الّتي اتّسعت لتشمل صفحة الأيّام
تمخر في محيط الذاكرة.
وهي المواسم. والفتاة العابرة
عند الصّباح
وفي يديها سهل مرجعيون
وهي الطّائرة
ضربت على كتف الفتاة... فأسقطتها...
وتدحرج الزّيتون...



طائرة تحطّ على الغصون وتلدغ العصفور
جنديّان يمتطيان جيباً هائجاً
وفراشة صفراء في حقل البصل
أحد الدخان على الجبل
والبيت أطفأ نفسه ورحل
■ ■ ■
والمرج ممدود أمام البيت
كحديقة في قبر
ويشقّه خطّ من الإسفلت
ودخّان جیش مرّ
■ ■ ■
حور بعید
قبل ذلك
يظهر العصفور يعلو
والمساء يقود شخص الشّمس نحو الغرب
تصفرّ الصّخور
ويعتم الزّيتون
فلّاحان يقتعدان جذعاً مستديراً
ينهضان
وينتهي يوم البطاطا...
ويجيء يوم النّوم...
ناما هادئين
واستيقظا في شاحنات النّازحين
وجاء يوم الخوف
صيف
ناشف
يغشى الخيام
تغادر الأشباح عتمتها وتحتلّ الصّباح العامّ
نسمع صمت أحجار تموت
وضجّة الحشرات تبحث عن مفاتیح البيوت
وفي الحديقة
حيث لا أحد يثرثر
تسقط الأوراق يابسة
كما في جنّة الشّعراء
نافذتان لا تتحادثان
وعصبة خرجوا من المقهى
وما عادوا
تظنّون الكلاب تعيش في هذا المناخ الأصفر الضّاري؟!
لذلك، لا يصحّ القول: إنّ الكلب ينبح
لا يصحّ كذلك التّحديق في الأشياء
بحثاً عن حياة ما
ألا إنّ الظّلام... مئات آلاف الظّلام
تدور من بيت إلى بيت
ومن موت إلى موت
ألا إنّ الرّكام... مئات آلاف الرّكام
تطنّ في صمت الخيام!
■ ■ ■
عشرون ألفاً ينهرون الطّائرات تقدّموا
وتقهقروا غرباً
إزاء تحصّن الأشياء في الأسماء: حارسة الحقيقة
دبّابة في الجوّ
لكن
جدّتي في الجوّ
لكن
طابتي في الجوّ
هذا الشّيء لي
وأنا الّذي سمّيته العالي
وسمّيت الطّفولة تحته
مستقبلي
عشرون ألفاً ينهرون الطّائرات
تقدّموا
وترجّل الجنديّ
مشى إلى ليل الحديقة
تستوقف الجنديّ ضفدعة الحقيقة
وتنقّ قائلة له: — طلع الصّباح...
■ ■ ■
طلع الصّباح على طريق المدرسة
طلع الصّباح على الدّجاجة والكتاب
طلع الصّباح على القمر
وعلى غصون اللّوز
وانتشر البقر
في باحة الاثنين
ثور أسود نطح الكرى
فاستيقظ التّلميذ
ثور أبيض نطح الثّرى
فاستيقظ الفلّاح
لكن
لم يجد أحد يديه
ولم يجد أحد
مکان ثیابه
ومكان
روحه.
■ ■ ■
الأربعون تساقطوا مثل الثّياب الفارغة
الأربعون تساقطوا مثل الظّلال
ولم يسل دمهم وسال
داء المفاصل
والسّعال
حملوا إليّ الأربعين وكان أصغرهم على باب المئة
حملوا البقايا المطفأه
حملوا كأكياس معبّأة سنين
حملوا إليّ الأربعين
وكان أكبرهم غلام

يحبو على صدر الخيام
وكانت الشّمس الضّحی
والمرج ممتلئاً ظلام
■ ■ ■
الماء يأتي صافياً
ويعود مسموماً بأشواقي إلى
بيتي خلا
منّي فلا...

يا أيّها الماء الّذي وثب الزّمان وبلّلا
روحاً مصوّحة
وجسماً ذابلاً
سلّم على...
سلّم على...
وعلى الّذين
سقطوا
وكانوا أربعين

وكان أضعفهم أشدّ على الخيام
من كلّ ما حملت من الأيّام...

II. ظِلُّ الوردةِ، 2012

هناك شيء تمسك به الحياة
وتخفيه وراء ظهرها
ولن أتوقف عن الكتابة
حتى أعرف: ما هو!
■ ■ ■
كان ذلك ظِلَّ شخص
ينظر إلى ظل حِرْذَوْنٍ
يركض على ظل غضن
في ظل شجرة زيتون
■ ■ ■
مكث يحدّق في الوردة
حتى انفجرت
■ ■ ■
هل ترين الفراشة؟
عجباً
كيف تضمد هذه الهشاشة
بجناحين!
■ ■ ■
تشبيه:
كان الينبوع
كعين تبكي
من الفرح
■ ■ ■
تشبيه:
أبخل
من صخرة!
■ ■ ■
عندما أتوقف عن الدهشة
أمام مشهد الوردة
فسأذهب للبحث عن القانون
الذي يقبع وراءها
■ ■ ■
انفجار البيغ بانغ نفسه
قد لا يكون بأهمية انفجار
برعم زهرة
■ ■ ■
غيمة السماء هي موجة البحر
موجة البحر هي غيمة السماء
■ ■ ■
عندما تزورينني
احملي مصباحاً في يدك
فالحياة مظلمة من حولي
■ ■ ■
لم يحدث يوماً أن غرقت
في نهر أو بحر
والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك
كانت هنا على اليابسة!
■ ■ ■
لا نملك إلا أن تتخبط
فنحن نوهب الحياة
من دون دليل يشير
إلى طريقة الاستعمال
■ ■ ■
الموتُ يروح ويجيء من حولنا
بأقدام حافية
لكي لا يحدث الجلبة
التي توقظنا من حلم الحياة