على مداخل شارع الحمرا، زحمة سير خانقة قد تظنّ للوهلة أنها حادث تصادم، قبل أن تواصل السيارة تقدّمها نحو الخطّ المزدحم، فيتّضح أنها تجمّع لعشرات الأشخاص حول مخرج يحاول التقاط مشهد في كاميراته. هذه اللقطة باتت أمراً مألوفاً للبنانيين في الفترة الأخيرة، تحديداً بعد انتهاء الموسم الدرامي الرمضاني، وانطلاق شركات الإنتاج بالتحضير للمسلسلات التي ستبصر النور قريباً وستُعرض غالبيتها على تطبيق «شاهد» المنضوي تحت شبكة mbc.هكذا، تحوّل «الحمرا» والشوارع المحيطة به، إلى مركز أساسي للتصوير، فانعكس ذلك إيجاباً على الفنادق والمقاهي والمنازل التي يتم استئجارها لمدّة غير قصيرة. هذه الصورة متوقعة في ظلّ تصوير عشرات المسلسلات التي بدأ تصوير بعضها، فيما ينتظر بعضها الآخر صفّارة الانطلاق.

ستخوض هيفا تجربتها الأولى في عالم المسلسلات القصيرة

بعد انقضاء جائحة كورونا التي جمّدت التصوير أشهراً طويلة، تستعيد الخريطة الدرامية في لبنان هذا الصيف حركتها في مقابل استمرار الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية. فكيف تأقلمت شركات الإنتاج مع الأزمة بعد عودة الحياة إلى طبيعتها؟ وماذا عن تداعيات ارتفاع أسعار المحروقات وانقطاع الكهرباء على عملية التصوير؟ وهل لا تزال بيروت مركزاً أساسياً للتصوير في ظل التركيز على الدول الخليجية التي تخصص الميزانيات الضخمة للدراما؟
«إنها الفوضى الخلّاقة»، يقولها أحد العاملين في القطاع الإنتاجي، واصفاً تداعيات الأزمة الاقتصادية وأزمة المحروقات بأنّها إيجابية على صناعة المحتوى الدرامي. يضحك ساخراً من الوضع الحالي: «نضيء مبنى بالكامل من أجل تصوير مشهد صغير في إحدى الشقق. الظلام دامس، والمصاعد متوقّفة. جميعها مشاكل تضيّع وقتنا. لكن مع ذلك، فإن التصوير في بيروت مستمرّ، ولم يتوقّف حتى في عزّ الحرب، فكيف يتجمّد اليوم في ظلّ الفورة الفنية والتغيرات الحاصلة في عالم السترمينغ؟». يرى العامل أنّ شركات الإنتاج قسّمت «قالب حلوى» الإنتاج الدرامي، وراحت كل واحدة تنفّذ قطعتها على طريقتها الخاصة حسب علاقاتها مع المنصات والقنوات الخليجية، فتعاقدت مع نجوم مخضرمين من مختلف الجنسيات، لإعطاء زخم للمسلسلات القصيرة.
في هذا السياق، بعد غياب عن الإنتاج، يعود المنتج اللبناني زياد شويري أخيراً بمشاريع عدّة، على رأسها مسلسل ستلعب بطولته هيفا وهبي. كيف يقرأ شويري انعكاسات الأزمة على الدراما؟ يجيبنا: «إن الوضع الاقتصادي يسمح بالإنتاج الجيد في لبنان». ويوضح: «بعيداً عن مصر التي تُعتبر نقطة أساسية للتصوير عربياً، فإن الفوضى في جميع النواحي التي تشهدها بيروت، تنعكس إيجاباً على الدراما. مثلاً، بات الحصول على إذن التصوير أمراً سهلاً وميسّراً على عكس غالبية الدول. البلد يعيش فلتاناً لناحية الرقابة على الترتيبات اللوجستية للتصوير، وعدم الانضباط قد ينعكس إيجاباً على تسهيل عملية التصوير». في المقابل، يجد شويري أن الفريق التقني في لبنان، يضم محترفين، ناهيك بوجود العامل التقني السوري الذي يتميز أيضاً بأقسام فنية. كما تتوافر أماكن تصوير خارجية خلابة، ويُسمح بدخول جميع الجنسيات بسهولة إلى لبنان. الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر الدولار، لعبا دوراً أساسياً في خفض ميزانية التصوير نحو 30%، مقارنة بالتصوير خارج لبنان».
لكن ما سرّ تصوير المسلسلات القصيرة في لبنان؟ يرى المنتج اللبناني أنّ الدراما التلفزيونية على الشاشة الصغيرة قد انتهى زمانها، وبات التوجّه اليوم نحو الربح بالدولار عبر المنصات والقنوات الخليجية أيضاً. باتت شركات الإنتاج بحاجة إلى مواكبة التطور الحاصل في عالم الدراما، فاتجهت نحو الأعمال القصيرة التي تغزو العالم كلّه. وعن جديده، يكشف منتج مسلسل «عشق النساء» (كتابة منى طايع وإخراج فيليب أسمر/نادين نجيم، ورد الخال، باسل خياط...) عن أنه يحضّر لحزمة من الأعمال، على رأسها مسلسل ذو حلقات قصيرة سيكون تجربة هيفا الأولى في ذلك العالم. كذلك يُطبخ على نار هادئة مسلسلان لبنانيان، ستتضح ملامحهما قريباً.
مفيد الرفاعي لا يتبنى نظرة زياد شويري الإيجابية. المنتج الذي يصوّر حالياً مسلسلاً في الإمارات حيث يستقرّ فترة زمانية هناك، يرى أن لا انعكاسات إيجابية للأزمة الاقتصادية على تلك الصناعة. يقول الرفاعي لنا «إن الميزانية في لبنان تُدفع بعملة الدولار الأميركي، ناهيك بأزمة المحروقات وانقطاع الكهرباء التي تُعتبر عبئاً ثقيلاً على صنّاع الدراما. نعم هناك زحمة تصوير، وكل ما في الأمر أن بعض شركات الإنتاج لا تتمكن من التصوير في مصر، لذلك تستقدم النجوم المصريين إلى بيروت».
يعود الرفاعي إلى الوراء قليلاً، مستذكراً أزمة فيروس كورونا وطريقة تعاطي الوزارة المعنية في لبنان معها، ما أدّى إلى تجميد المسلسلات. يقول: «المعنيون بالشأن الفني في الحكومة اللبنانية لا يقفون إلى جانب المنتج ولا يسهلون أمره، وخير دليل على ذلك أزمة كورونا التي منعت التصوير وتعاطى المسؤولون مع الأزمة بشكل غير مسؤول، فتجمّدت الأعمال. أمر أجبر شركات الإنتاج على الاستغناء عن فريقها اللبناني. الأزمة الاقتصادية والمالية الداخلية ليست صحيّة على الدراما، لكنّ الشعب اللبناني في المقابل يستغلّ هذه الأزمة مثل رفع سعر تأجير المنازل وأماكن التصوير بشكل مضاعف خلال فترة وجيزة».
وعن مشاريعه المنتظرة، يكشف الرفاعي أنّه في صدد تحضير عملين قصيرين سيُصوّران في بيروت وأوروبا، الأول، كتبته سلام كسيري والثاني، ورشة كتّاب.
من جانبها، وضعت شركة «صبّاح إخوان» (صادق الصبّاح) خطّة عمل درامية طويلة، تمتدّ لعام تقريباً. تقوم هذه الخطة على تصوير عدد من المسلسلات ذات الحلقات القصيرة تدور أحداثها كلّها في لبنان هذا الصيف. هكذا، في جعبة «صبّاح إخوان» أعمال بدأت بتصويرها من بينها «براندو الشرق» (إخراج أمين درة) الذي كتبه جورج خباز ويلعب بطولته إلى جانب النجمة أمل عرفة. كذلك دارت كاميرا مسلسل «العين بالعين» (كتابة سلام كسيري وإخراج رندة علم) الذي يجمع سيرين عبدالنور ورامي عياش.

حجزت نادين نجيم مكاناً لها في الخريطة الرمضانية لتعود إلى الشاشة الصغيرة بعد غياب عنها

في المقابل، تحضّر الشركة اللبنانية لباقة من المسلسلات القصيرة التي ستنطلق كاميراتها قريباً، من بينها «الغريب» (إخراج صوفي بطرس ـ تأليف لبنى حداد ولانا الجندي) للنجم السوري بسام كوسا وسينطلق تصويره منتصف شهر تموز. كما تشهد الشركة زحمة مشاريع مصرية تُصوّر في بيروت، من بينها «وزن الريش» لأحمد السقا الذي يتألف من ثماني حلقات. ومن بين الأعمال الرمضانية، سيُصوّر مسلسل «الحبس» لكارين رزق الله ومعتصم النهار، إضافة إلى «نار بالنار» (بطولة عابد فهد ــ كتابة رامي كوسا ــ سيُعرض في رمضان 2023)، إلى جانب مسلسل سيخرجه سامر البرقاوي ويلعب بطولته تيم حسن، ومن المتوقّع تصويره بين مصر وسوريا ولبنان. كما حجزت نادين نجيم مكاناً لها في الخريطة الرمضانية لتعود إلى الشاشة الصغيرة بعد غياب العام الماضي.
في هذا السياق، يشرح صادق الصباح وضع المسلسلات في لبنان، قائلاً: «إن الكوادر الفنية في بيروت جيّدة، ويترافق ذلك مع مناخ معتدل وأماكن تصوير مناسبة. هذه الخلطة تعطي دعماً لشركات الإنتاج للتصوير في بلدنا». أما عن الكلفة المادية وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة، فيجد الصباح أن «الميزانية باتت كلها تُدفع بالدولار. في بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، كانت هناك فروقات في العملة بعد الصعود المفاجئ للدولار مقابل الليرة اللبنانية. لكن اليوم باتت ميزانية الصناعة توضع بالدولار كلها. يبقى أن كل بلد يسعى إلى إيجاد عامل محفّز لتسليط الضوء عليه، وهذا الأمر تسعى إليه الدول العربية والخليجية كافة».
لعبت الأزمة دوراً في خفض ميزانية التصوير بنسبة 30% مقارنة بالتصوير خارج لبنان (زياد شويري)


على الضفة نفسها، تنشغل شركة «إيغل فيلمز» التي يديرها جمال سنان بتصوير مسلسلات قصيرة في لبنان، على رأسها الموسم الثاني من مسلسل «عنبر 6» الذي عُرض موسمه الأول على تطبيق «شاهد» العام الماضي. جمع العمل الدرامي القصير، باقة من الممثلات العربيات واللبنانيات، من بينهن سلاف فواخرجي والأردنية صبا مبارك وغيرهما. في المقابل، بات لافتاً أن الشركة اللبنانية تركّز على تقديم المسلسلات الخليجية التي تُصوّر غالبيتها في بيروت، وتحضّر لحزمة مشاريع، من بينها مسلسل خليجي لبناني سيُعلن عنه قريباً. كذلك أعلنت أخيراً عن مسلسل «لاوندري» الذي يجمع النجمين الخليجيين شجون الهاجري وعبدالله بو شهري.
إذاً، مع مرور عامين على الأزمة المالية والاقتصادية، يبدو أنّ شركات الإنتاج بدأت تتكيّف بل تستثمر فيها لتقديم محتوى درامي يُصوّر في بيروت التي كانت ولا تزال مركزاً فنياً صامداً طالما أنّ الأوضاع الأمنية مستتبّة.