كأنّه يُعيد تلوين مدينته التي يعشق، محاولاً تشكيلها بريشته وبناءها بخيال ألوانه، وإحياءها بما بقي بعد سلسلة الخسارات والانكسارات التي لحقت بها خلال الحروب والمآسي المديدة المتوالية. تحت عنوان «حافظ الذاكرة»، يُقيم الفنان السوري نزار صابور معرضه في «غاليري كاف» في بيروت لغاية 20 حزيران (يونيو) الحالي.



ألوان الشمس والأرض متعانقة ومتمازجة بالباستيل والزيت في بهجة لونية تراثيّة آسرة. صابور شديد التعلّق ببلده، وأكثر بمدينته، مفصحاً عن هذا التعلّق في لوحاته، قائلاً: «تأثرت شديد التأثّر بطفولتي. كل شيء في حياتي مرتبط بالأرض».
نزار صابور مولود في اللاذقية عام 1958، خرّيج كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ثم نال دكتوراه في فلسفة الفن من «أكاديمية ستروغونوف للفنون الصناعية والتطبيقية» في موسكو. يحمل في مخزونه الثقافيّ تأثّرات خاصة بالتاريخ القديم وأساطيره، من ملحمة جلجامش وصولاً إلى الأيقونات والمنمنمات. أعماله تدل على تلك المنابع التي يسقطها على الراهن المتجلّي في أنماط عيش واجتماع، ومآسٍ وراهن يجتاح عالمنا العربي، بدءاً من تدمير العراق وغزوه، وصولاً إلى الانتفاضات الفلسطينية، مروراً بالحرب السورية التي دمّرت البشر والحجر والآثار التاريخية والدينية مثل معلولا، وتدمر والقلمون. المدن في سرديّات نزار صابور البصريّة تبدو معتّقة كأنها مخطوطات قديمة. لكنّ الناظر إلى لوحاته لا تصيبه الدهشة، إذ ينتابه إحساس بأنّه رأى أعمالاً مماثلة سابقاً.
يرمي صابور إلى جعل معرضه نقطة تحوّل في تجربته التشكيلية التي يزاولها منذ عقود، مستقياً دلالاته المكثّفة من البيئات السورية المتنوّعة، مستلهماً فنّ الأيقونة، مكثراً من استخدام الرمز، ناحتاً إيّاه على سطح اللوحة على نحو منمنمات لونية دقيقة، صغيرة وكبيرة. تتعدّد أساليب تجاربه الخاصة من دون إغفال ما تشبّع به من مدارس وتيّارات تشكيلية عالمية. تنويعاته رشيقة، وملوناته متدرجّة وغنيّة تخالطها كتابات ورموز. كما يستنبط فن العمارة السورية ومعالمها القديمة، إنما برؤية ذاتية لدى «قراءة» فرادة المكان واختزاله بصرياً. فالتوازن البصريّ يقيم توازناً بين الجميل والقبيح، أي بين الفن وهو الجمال والدمار وهو القبح بذاته. وتطغى كذلك الخطوط الهندسية، التي يتجاوزها إلى رسم الطيور والحيوانات والمنظر الطبيعيّ حيث تحتلّ جبال معلولا وصخورها ومنازلها الجميلة، مثلاً، حيّزاً خاصاً في لوحاته.
ألوان الشمس والأرض متمازجة بالباستيل والزيت في بهجة تراثيّة آسرة


يرتقي صابور أيضاً إلى مستوى التجريد، فيمزج جماليات اللوحة بالأبعاد الذهنية، ويظلّ اللون مرحاً ومبهجاً يراوح بين الأفكار والألوان ضمن ثنائيات هندسية كالدائرة والمثلث، مبحراً في سينوغرافيا التاريخ والبشر والأماكن التي ارتكز فيها إلى بحث مضنٍ في الذاكرة السورية البعيدة، فالقريبة منها، لا سيّما ما يتعلّق بسمات المدن الآرامية، والنواميس التدمرية الأفقية. وتستمدّ لوحته إيقاعاتها من الحياة اليومية، ويستخدم لها موادّ طبيعية كالرماد المضاف إلى الأكريليك والزيت، لتبدو أعماله نتاج مخيّلة لا واقع. فالمنازل في معلولا والقلمون مغلّفة بالألوان والأشكال الضبابية المبهمة، لتبدو منهمكة بيوميّات ناسها الملبّدة بغيوم الحرب. وفي اللوحات حضور لافت للتلال المرتفعة التي تلقي بظلالها على البيوت القديمة والتراثية، كأنّنا حيال أيقونات. فن الأيقونة السوريّ وإرث الملاحم الشعبية حاضران بقوّة في اللوحات المعلّقة في «كاف»، فضلاً عن الأعمال الغرافيتيّة ذات النزعة الفردية والعفويّة التي تستوقفنا عند جدران المدن. عناصر كثيرة تتراكم مستقاة من فنون محلية ومذاهب تشكيلية عالمية.

* «حافظ الذاكرة»: لغاية 20 حزيران (يونيو) ـــــ «غاليري كاف» (مار نقولا ــ الأشرفية ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/334984