إيران ليست مجرد كيان نفطيّ أو استبداد أوتوقراطيّ كما يحلو لمراكز الأبحاث الغربيّة القول. هي دولة تطوّرت تدريجاً منذ نهاية القرن التاسع عشر، وصولاً إلى محاولاتها القوية دخول معركة القوى الكبرى العالمية مع بداية القرن الحادي والعشرين. إنها الدولة الإقليمية التي تُخيف البعض، وتثير إعجاب آخرين، وتشكّل غموضاً للجميع. دخلت إيران القرن العشرين بالثور والمحراث الخشبي، وخرجت منه بمعامل للصلب، وبواحد من أعلى معدلات حوادث السيارات في العالم، وببرنامج نووي يثير ذعر كثيرين. هذه هي خلاصة كتاب الباحث الايراني أروند إبراهيميان «تاريخ إيران الحديثة» (2008 ــ تعريب مجدي صبحي) الذي صدرت ترجمته أخيراً عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية.
تشكيل الدولة الحديثة بحكومتها المركزية هو العنصر الجوهري في هذا التحول الإيرانيّ العظيم بحسب المؤلف، ولذا «بصرف النظر عما إذا كانت شمولية أم لا، فإنّ الدولة قد نمت بقفزات واسعة إلى حد أنها الآن تتحكم في وسائل العنف المنظم وجهاز منظم لجمع الضرائب وإقامة العدل وتوزيع الخدمات الاجتماعية». هذه التحولات والتغيرات العميقة الممتدة إلى أدق التفاصيل والمخاوف اليومية هي التي تؤطر مسيرة الدولة الإيرانية التي باتت إحدى أهم الدول إقليمياً، إذ إنّ الانتقال من المخاطر المتمثلة بقطّاع الطرق وعين الحسود والمجاعة والأمراض والأوبئة إلى مخاوف «حديثة»، لا تقل أهمية وخطورة عن سابقاتها، مثل البطالة والتقاعد والتنافس لدخول الجامعات، بل حتى السباق النووي، هو الذي يمنح التوصيف الدقيق لإيران اليوم؛ إنها دولة حديثة ذات حكومة مركزية وسلطات شبه متمايزة. لا نتوقع حيادية صارمة من أي مؤرخ. لكن يمكن القول إنّ إبراهيميان يبدو متمسكاً بوجهة نظر نقدية صارمة تجاه الدولة الشاهنشاهية، وتجاه «إيران الخمينيّة»، على حد سواء، فيما يبدو أقرب إلى اللحظات الليبرالية القليلة في القرن العشرين الطويل، وإلى دولة محمد مصدق، من دون أن يعني أنّه يتخلى عن عدّته النقدية. هو ينبش تلك التواريخ المكرّسة ليعيد كتابة تفاصيل بعينها، بحيث يبدو التركيز على الأسماء التي يؤكّد المؤلف ضمنياً بأنها الأسماء التي أسست وطوّرت الدولة الإيرانية الحديثة، بهذا القدر أو ذاك، ابتداء بالشاه رضا وصولاً إلى الرئيس محمد خاتمي، مروراً بالمفكر علي شريعتي. إذاً، يميل إبراهيميان إلى الإصلاح، ويجده بديلاً أقوى من الثورة أو ضعف الدولة المركزية، بصرف النظر عن توصيف الحُكم، دكتاتورياً كان أم ديمقراطياً، علمانياً أم دينياً. بعيداً من دولة الشاه رضا التي اعتمد فيها بشكل أساسي على ولاء الجيش بحكم خلفيته العسكرية، والتي تُعتبر، بدرجة ما، نقطة انطلاق «الدولة» في إيران، حيث بدأ تكريس البيروقراطية والوجهاء، تبدو الحركة الدستوريةعام 1906 هي البداية الحقيقية للتغيير الإيراني المقبل. ويبدو محمد مصدق هو الشخصية الكاريزمية الأعظم في التاريخ الإيراني الحديث، بخاصة من خلال اعتماده على «القوة الشعبيّة» في مواجهة الاستبداد التسلّطي لحٌكم الشاه، لا سيما عندما سعى بكل قوته لتأميم النفط الإيراني. مصدق كان من أوائل من اعتمدوا على معادلة «الشعب في مواجهة السلطة». أصبح هو القائد الوطنيّ الذي يُخيف السلطات المحليّة والقوى الخارجية معاً، إذ اعتبر مصدق أنّ تأييد الطبقة الوسطى واستخدام استراتيجيات العرائض والتظاهرات هي الوسيلة المثلى في تغيير حُكم الشاه، وإن لم يؤد ذلك إلى إنهاء حكمه. ولذلك كان الانقلاب البريطاني_الأميركيّ بمعاونة الشاه عام 1953 هو نقطة النهاية للمرحلة الوطنية الأعظم في تاريخ إيران. ويشير إبراهيميان إلى أنّ تصوير هذا الانقلاب باعتباره مغامرة من الاستخبارات الأميركية لمنع إيران من الانضمام إلى الشيوعية الدولية، ما هو إلا قناع زائف لإخفاء السبب الفعلي المتمثل بإنهاء حكم مصدق، عبر مغامرة بريطانية_أميركية مشتركة للحفاظ على احتكارات النفط العالمية.

يعتبر المؤلف أنّ محمد مصدق هو الشخصية الكاريزمية الأعظم

لم يكن الانقلاب موجهاً إلى مصدق فحسب، إذ تسبّب هذا الانقلاب بتدمير «الجبهة الوطنية» و«حزب توده». ويؤكد إبراهيميان بأنّ هذا التدمير هو الذي مهّد الطريق للحركة الدينية، بحيث «يمكن للمرء المجادلة بأنّ الجذور الحقيقية لثورة 1979 تعود إلى عام 1953». من ناحية أخرى، بدا هذا الانقلاب بمثابة فرصة لا تتكرر كي يعيد الشاه محمد رضا تكريس دولته الاستبدادية بالاعتماد على جهاز «السافاك» المرعب، وبمساعدة (صريحة أحياناً وضمنياً أحياناً أخرى) من الدول الغربية. كانت هذه السياسة القمعيّة التي تذكّر بعهود العبودية هي السبب المباشر لتهيئة المسرح للقوى الدينية التي ستحتل المشهد نهاية السبعينيات بعد تفريغ إيران من القوى والأحزاب والشخصيات الوطنيّة. مع حلول السبعينيات، مثلاً، كان عدد الأطباء الإيرانيين في نيويورك أكثر من عددهم في أي مدينة إيرانية بخلاف طهران. وهنا، انطلقت الحركة الدينية بتياراتها المتعددة التي انقسمت بشكل أساسي بين شريعتي والخميني، أو بين الإنتلجنسيا الشابة ورجال الدين؛ بين فكرة شريعتي التي تتمثل في أنّ «الجوهر الحقيقيّ للتشيع هو الثورة ضد كل أشكال الاضطهاد... وإن النبي محمد لم يُبعث لتأسيس دين جديد فقط، بل مجتمع ديناميكي لتحريك الثورة الدائمة تجاه تحقيق يوتوبيا مجتمع بلا طبقات»، وفكرة الخميني المتمثّلة في أنّ «ما تريده الأمة هو جمهورية إسلامية... فالإسلام لا يحتاج إلى أي صفات مثل الديمقراطية، لأن الإسلام هو كل شيء، فهو يعني كل شيء». في النتيجة، كان الانتصار من نصيب الخميني، فيما بقي شريعتي، عند كثيرين، بمثابة المنظّر الفعلي للثورة الإسلاميّة. وبينما كانت ثورة 1979 مزيجاً معقّداً من الوطنية، والشعبوية السياسية، والراديكالية الدينية، استُئصلت كل القوى المشاركة في الثورة واكتُفي بـ«الشعبوية الإسلامية» الخمينية، بحسب المؤلّف.
لم يستطرد إبراهيميان في التفصيل عند حديثه عن «الجمهورية الإسلامية» منذ 1979، لكن يمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة تعاطفاً مع الجناح «الإصلاحيّ» في القيادات الإيرانية، وتركيزاً كبيراً على شخصية الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي شكّل شخصية دينية «مختلفة» عبرمزجه بين الليبراليّة والعمامة السوداء، وصولاً إلى الانهيار التدريجي للإصلاحيين بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وعودة المحافظين إلى السلطة. وبصرف النظر عن مدى تشدّد السلطة، يشير الكاتب في نهاية الكتاب (ينتهي مع بداية عام 2008)، إلى أنّ إيران الآن قوة كبيرة لا يمكن توصيفها، بعكس معظم الدول الإقليمية المجاورة لها، بكونها دولة فاشلة. هي تمتلك كل المقومات الجوهريّة للدولة الحديثة القوية، سواء كان ذلك على الصعيد الاقتصاديّ أو الحكومة المركزية الممتدة إلى كل المواطنين أو الهوية الوطنيّة الموغلة في التاريخ.