في دورتها الـ 15، مُنحت «الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)» لعام 2022 للكاتب الليبي الشاب محمد النعّاس (1991) عن «الخبز على طاولة الخال ميلاد» (صادرة عن داري نشر تونسيتين هما «مسكيلياني» و«رشم»). رواية وصفها رئيس لجنة التحكيم الروائي التونسي شكري المبخوت بأنّها «قامت على استعادة تجربة شخصية في ضرب من الاعترافات التي نظّم السرد المتقن المشوّق فوضى تفاصيلها، ليقدم نقداً دقيقاً وعميقاً للتصورات السائدة عن الرجولة والأنوثة، وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة وتأثيرهما النفسي والاجتماعي». وكان النعّاس قد أنجز باكورته الروائية في غضون ستّة أشهر خلال «فترة الحجر الصحي، عندما كان مقيماً في مدينة طرابلس الليبية، تحت القصف وأخبار الموت والمرض، والتي حصنته من دخول مرحلة الجنون» وفق البيان.الذي يقرأ الرواية، سيتتبع مسار ميلاد في رحلة البحث عما يريده من الحياة، بدءاً بالتربية التي نشأ عليها مع إخوته وعائلته وعلاقته بالخبز الذي أخذ منه طراوته، وفي الوقت ذاته أخذ منه فكرة أنه مصدر حياة. فالخبز مقابل الحياة، والسلاسة في التعامل مع الغير من دون النظر إليهم من زاوية المجتمع الضيقة. نتتبع في الرواية مسار ميلاد الذي تزوّج بحبيبته زينب من دون أن يهتم لرأي المجتمع الذي يضع العلاقات في قوالب جاهزة، حتى زينب ذاتها قبلت به رغم كل الفوارق بينهما، فقط لتبحث عن بصيص أمل في حرية مشتهاة. هكذا، نكتشف أن كل شيء «مقلوب» في هذه العلاقة، فزينب تقوم بكل شيء خارج البيت. في المقابل، يتولى ميلاد دور «الزوجة» التقليدي. يغسل، يطبخ، ينظف بدون تعب أو تذمر. بالعكس، كان ذلك بالنسبة إليه، أقصى درجات التحرر من القيود التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة في مجتمع ذكوري. وهكذا، فإننا نرى علاقة زوجين مختلفة تماماً عن السائد، علاقة يحكمها الحب، ذلك الحب الذي يمنحه ميلاد لزوجته، وللخبز كذلك. فعلاقته بالخبز وحدها حكاية، يمكن استخلاص الكثير منها، فهو يقول في الرواية إنّ «مزاجي مربوطٌ دائماً بالخبز. لم أرتبط بأيّ شيءٍ آخر في حياتي بأكملها كما فعلت معه. في أيّام المعسكر، كنتُ أتعذّب لابتعادي عن أرغفتي في الكوشة. كنتُ سيّئ المزاج بعد ذلك، لفقداني الرغبة في التواصل معه مجدداً. حتّى الأيّام التي تلحق محاولاتي الفاشلة في صنع رغيفٍ جديدٍ، كانت سيّئةً وسخيفةً وغير محتملةٍ. إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شهوتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي وجفافي في رغيفي الذي يظهر بشكل تلك المشاعر».
الخبز هو الخيط الرفيع الذي نقبض من خلاله على حكاية الخال ميلاد


الخبز هو الخيط الرفيع الذي نقبض من خلاله على حكاية الخال ميلاد. ومن هنا، نقبض على الرواية، ليقدم النعاس للقارئ نصاً جريئاً مبيناً يضع مشاكل المجتمع الليبي على طاولة النقاش، متوقفاً عند «الخيانة»، وعلاقة الإخوة، والنظرة الدونية للمرأة، وقصة الرجل الذي يحاول أن يكون هو من دون أن يستمع لصوت الجماعة. يحقق ذاته وفقاً لآرائه الخاصة، لكنه يفاجأ بالصوت القادم من المجتمع، يعيده إليه بصورة أسوأ من تلك التي كان عليها، إذ نقرأ من خلال هذه الدوامة التي كان ميلاد يعيشها، وقد وأجاد النعّاس توصيفها روائياً، نظرة المجتمع إلى المرأة وعلاقة الرجل بها، وكيف يمكن أن يصير الاختلاف جريمةً في عِرفه. عيب ميلاد أنه تلاعب بمقياس الرجولة. لذا كان لزاماً أن ينقاد لصوت الضمير الجمعي ويحقّق «شروط الرجولة» من منظور المجتمع.
هكذا نعرف أن ميلاد لم يكن شخصية خاضعة للمجتمع، أو شبيهة بالآخرين، أو ضعيفة لأنها استسلمت في النهاية لما يريدونه منها، لا ما تريده هي. شخصيّة ميلاد كانت مختلفة، جرّبت بكل السبل أن تكون محبة وأن تتعامل مع كل شيء بطراوة، حاولت مراراً أن تكون هي، وقد قطعت شوطاً كبيراً في إثبات ذلك بجدارة، قبل أن نصل إلى النهاية المأسوية: قتل زينب بكل وعي وإدراك، وهو الذي كان مجرد التفكير في الانفصال عنها يدعوه للانتحار. لعلّ الكاتب أراد بهذا الفعل أن يحيلنا إلى الأفكار الجاهزة والأحكام التي نقتل بها الآخرين، فهي ليست وليدة لحظة بعينها، بل تأتي نتيجة تراكمات، تجعل رؤيتنا للأمور تتغير شيئاً فشيئاً، لنصبح كلنا من دون أن ندري الخال ميلاد.
الخال ميلاد ليس شخصية روائية غريبة عنا. هو كل شخص أهمل صوته الخاص، ليفسح في المجال أمام صوت الآخر يسيّره كيفما شاء. وهكذا، فإنّ الرواية تسائل مسألة الجندر الدارجة هذه الأيام، لكن النعاس يمتلك حرفة الكتابة، والكلمة التي تبدو كـ «رمز وبهجة. يصبح «الشيء» هو «الكلمة»، ثم يعود شيئاً من جديد، لكنه منسوج ومحرف على نمط وهمي غريب على حد تعبير جون شتاينبك.



القائمة القصيرة
محمد النعّاس الذي يُعدّ أول كاتب ليبي ينال «بوكر»، تنافست روايته مع خمس أخريات هي: «ماكيت القاهرة» لطارق إمام (مصر)، و«دلشاد» لبشرى خلفان (عُمان)، و«يوميات روز» لريم الكمالي (الإمارات)، و«الخط الأبيض من الليل» لخالد النصرالله (الكويت)، و«أسير البرتغاليين» لمحسن الوكيلي (المغرب). وحصل كل من هؤلاء المرشحين الستة على 10 آلاف دولار، كما حصل النعّاس على 50 ألف دولار، إلى جانب ترجمة روايته إلى اللغة الإنكليزية.