التقيته للمرّة الأولى في مقر «الحزب الشيوعي» العراقي في دمشق، ربما قبل عقد تقريباً. كان يسير بصعوبة، يتكئ على عكازة قديمة، فمه مذهول وعيناه تنتقلان في المكان، كما لو كان يبحث عن دهشة. جلس على أحد المقاعد الأمامية، كان يوم تكريم الرسام العراقي جبر علوان، وبسبب صغر القاعة وعدد الكراسي القليل، وقفت على الجانب أنظر إليه، بعد دقائق، شعر بالتعب، غفا على الكرسي، لم أشأ أن أوقظه، تركته يحلم، ورحت أسترجع برأسي سيرته الطويلة. أينما هنالك من ثورة، تجد مظفراً، أهوار العراق والهرب إلى قرى الجنوب التي ستحوله بلهجتها إلى شاعر شعبي أشهر منه شاعر حرِّ، درابين بغداد الموغلة بأسرار الانقلابات العسكرية والمؤامرات السياسية، وأوراقه المليئة بالشتائم الثورية الغاضبة. هذه الشتائم التي أجد أنها هي التي جعلت من مظفر النواب ينال هذه الشهرة عربياً، فالعربي يحب الشتم والشتائم، ولأن «العربي» أخرس أمام حاكمه، أحب النواب الذي شتم كل الحكام العرب بــ «أولاد القحبة»، هذه الكلمة التي تناقلتها الذاكرة العربية الشعبية على أنها نصر خجول. تجد مظفر في ظفار، وفي إريتريا، وفوق جبال كردستان، وإذا هدأ، يذهب إلى السجن. لكن هذا الهدوء يتحوّل إلى نفق سري، يحفر في سجن الحلة، يهرب منه مظفر ليجد نفسه في مرأب نقل عام. السجن كان أقرب إلى المدينة ممّا كان يظن، يواصل ثورة هربه إلى إيران، كان هذا بعد أحداث الحرس القومي في ستينيات العراق الحارقة. كان يريد الوصول إلى روسيا، قلعة الشيوعية، وصل إلى البصرة ومنها إلى إيران. هناك يعتقله الشاه ويودعه السجن، السلطات الإيرانية تسلّمه إلى السلطات العراقية من جديد، يُحكم عليه بالإعدام، تخفّض العقوبة إلى السجن المؤبد، ثم يطلق سراحه. ينشقّ الحزب الشيوعي العراقي إلى قيادة مركزية تؤمن بالثورة، ولجنة مركزية بقيادة عزيز محمد. هذا القسم اشترك مع حزب البعث الحاكم عام 1969 بما يعرف بالجبهة الوطنية، أين تتوقع أن تجد مظفر النواب؟ بالتأكيد مع الجماعة التي تبحث عن الثورة، أي مع القيادة المركزية. يودع السجن من جديد، يزوره صدام حسين، كان في وقتها نائباً لرئيس الجمهورية، أخرجه من السجن، أعطاه مسدساً شخصياً ليحمي نفسه من بقية رفاقه المنشقين - كما برّر صدام سبب هذه الهدية - رفض مظفر قبولها، طلب بدل المسدس أن يُسمح له بالسفر إلى بيروت لطبع ديوانه الشعري. سمح له صدام بذلك، سافر إلى بيروت واستقرّ بينها وبين دمشق، ليجد عش راحته في عمارة قديمة في الطابق الثاني منها في شارع الباكستاني. عندما التقيته في هذه الأمسية الثقافية، شعرت بأن ثورة هذا الرجل ــــ كان يومها تجاوز السبعين من العمر ــــ قد هدأت، إلّا أن أصابعه التي كانت تضغط على عصاه بقوة حتى وهو نائم، توحي بأن ما زال هنالك متّسع من الغضب بداخل الرجل. مظفر النواب روح أبية، فقد زاره سياسي عراقي كبير وقدّم له مبلغاً كبيراً من المال إلّا أنّه رفضه. لم يأخذ من الحكومة العراقية إلا جواز سفر ديبلوماسياً أرسله إليه صديقه التاريخي رئيس العراق السابق مام (عم) جلال، يشترك مظفر مع جلال بخفة الدم وروح النكتة والدعابة. وربما هذا سبب التقارب بينهما، إضافة إلى ما عُرف عن الرئيس جلال حبه للشعر العربي والشعراء خاصة من رافقه في منافي المعارضة. أرسلت إحدى القنوات الإخبارية العربية الشهيرة رسولاً ومعه مبلغ ماليّ كبير لمظفر النواب لإجراء حوار تلفزيوني، الرجل رفض، لأنّ توجّهات هذه القناة لا تنسجم مع حقائق الأمور في العراق وتغيير النظام السياسي فيه بعد عام 2003. كان آخر لقاء تلفزيوني له في قناة عربية عام 1996 مع MBC وقد اشترط عدم قطع ما قاله في اللقاء. رفضت القناة ــــ ربما تحدث بما هو خارج حدود النص العربي ــــ رفض هو بدوره السماح لهم بعرض اللقاء ولم يُعرض. زار العراق عام 2011، تجوّل في سيارة، لعدم قدرته على المشي في شارع المتنبي. كانت عيناه حزينتين من وراء نافذة السيارة التي يحيط بها العشرات من محبيه. كان ينظر إلى الشارع بصمت وألم، كأنّه ينظر إليه نظرة الوداع الأخيرة. وربما، كان ينظر إلى حصاد سنين عمره التي ضاعت في المنافي والسجون والثورات الشعبية، وبين أسطر أشعاره التي صارت أغانيَ عراقية دافئة خالدة في الذاكرة العراقية. تُرى، أكان سعيداً بما حصل للعراق بعد 2003؟ هل توقّع أن ينتقل العراق من فم ديكتاتور، ليقع فريسة اللصوص من السياسيين والإرهابيين القتلة؟ وربما يفكّر بصمت، هل ثمة بقية من العمر لنضال جديد... ولعله يردّد بصمت: «روحي ولا تكلها: شبيج، وانت الماي، مكطوعة مثل خيط السمج روحي، حلاوة ليل محروكة حرك روحي».
* سيناريست عراقيّ