«الفترة الذهبية» تسمية أطلقها العراقيون على فترة السبعينيات التي عاشت في كنفها الأغنية العراقية أحلى سنواتها. هذه التسمية التي راقت كثيراً للمشتغلين في عالم الموسيقى والأغنية العراقية منذ ذلك الحين، هي اليوم تؤرّق مطربي وملحّني وحتى شعراء وقتنا الحالي، كونها أصبحت طموحاً يحاول فنان اليوم الوصول إليه. لكن ما الذي يميّز تلك الفترة حتى تحظى بكل هذا الاهتمام؟ إنّها ببساطة ظاهرة الصورة الشعرية الجديدة التي حملتها الأغنية السبعينية. في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ظهر على الساحة الغنائية العراقية شعراء تميّزت قصائدهم بحسّ شعري رقيق وصور حديثة لم تعرفها الأغنية العراقية من قبل، وبالتالي فإنّ الأذن العراقية صارت تسمع مفردات وجملاً ذات وقع خاص،ولا سيما تلك التي تحكي قصص العشق وتستعير مفردات الطبيعة لتكون صورة تحاكي عيون الحبيب وشعره وأحلامه الليلية. وقد مثّلت الأغنية السبعينية بالفعل الوجه المضيء للثقافة العراقية بقصائد شعراء مثل ذياب كزار «أبو سرحان» الشهير بأغنيتي «القنطرة» و«بنادم»، وزامل سعيد فتاح «المكير»، وزهير الدجيلي «الطيور الطايرة»، وكاظم الركابي «يا نجمة»، وطارق ياسين «لا خبر»، وجبار الغزي «يكولون غني بفرح»، وناظم السماوي «يا حريمه»، وغيرهم. إنهم في الحقيقة شعراء أغنية بامتياز، منحت قصائدهم المغناة الأذن العراقية دروساً في التذوّق الشعري، وحرّرتها من بكائية ونواح الغناء الريفي، إلّا أننا نجد الشاعر مظفر النوّاب وقد تصدّر قائمة شعراء أغنية الفترة السبعينية رغم أنه لم يطرح نفسه يوماً، شاعراً غنائياً!إنها الحقيقة، النواب لم يطرح نفسه شاعراً غنائياً، ولم يكتب قصائد غنائية بالشكل المتعارف عليه، إلا أننا نجد العديد من قصائده وقد تحوّلت إلى أغنيات سرعان ما تملّكت موقع الصدارة في الذاكرة العراقية، ومنها ما تحول إلى أمثال شعبية يتداولها الناس. لكن، هل قصائد النواب ـــ العامية منها على وجه الخصوص ـــ صالحة لتكون أغنيات يسمعها أبناء المجتمع على اختلاف مستوياتهم؟ وهل تأخذ الأغنية المكانة الرفيعة نفسها التي تتمتّع بها قصيدة النوّاب، الشاعر المعروف بقصائده الغاضبة المليئة بالدمع والدم وطلب الثأر والحثّ على الثورة، والجرأة في شتم الحكام وتعريتهم؟ الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تتوقف بكل تأكيد على ثقافة الملحن ومعرفته الموسيقية وحسّه الشعري الذي يختار على أساسه النص الشعري. هناك من نجحت اختياراتهم لقصائد النواب مثل الملحّن الراحل كمال السيد الذي لحّن قصيدة «يا ريحان» للمطرب فاضل عواد، وقصيدة «مضايف هيل» للمطرب سامي كمال، وكان قد سبقه الملحّن محمد جواد أموري في لحن قصيدة «الريل وحمد» التي أدّاها ياس خضر. هذه القصيدة التي لحّنها أيضاً الملحّن كوكب حمزة وقدمها للمطرب الشاب علي رشيد، ثم نجح الملحّن طالب القرغولي في اختيار قصيدة النواب «زرازير البراري» أو «حن وآنه أحن» كما تسمى شعبياً، وقد سمعها الجمهور بصوت ياس خضر الذي يتمتّع بخصوصية حزن الطقوس الحسينية وبكائها. طالب القرغولي اختار أيضاً قصيدة «روحي» للنواب، لكن رغم التغييرات التي أجراها على القصيدة لتنسجم مع جوّ الأغنية العراقية آنذاك، إلّا أنها بقيت بخصوصيتها بعيدة عن مجال الأغنية وغير مؤهّلة لتكون أغنية يسمعها عامة الناس، كونها كُتبت على شكل رسالة عتاب إلى الحزب الشيوعي العراقي في ذكرى ميلاده. لهذا نجد الأغنية قد وقعت في فخ الفهم الخاطئ، حين غناها ياس خضر بصوته البكائي الحزين، حيث تلقّف الناس جملة شعرية وردت في القصيدة «الأغنية»: «عمر واتعدى الثلاثين... لا يا فلان». شاعت هذه الجملة بين الأوساط العراقية وجعلت العراقي يخاف أن يتجاوز عمره الثلاثين عاماً، كونه ــ وكما فهم ببساطته ــ يشكل بداية الشيخوخة، فالمطرب وتماشياً مع اللحن كان يؤديها بحزن وأسف... قصيدة أخرى اختارها القرغولي وقدّمها بصوت ياس خضر أيضاً هي «ليل البنفسج» ليستمر التعاون مع القرغولي وخضر حتى فترة قريبة، قدموا للمستمع العراقي والعربي العديد من الأغاني المغرقة بكلمات الحزن والأسف والبكاء. اختيارات القرغولي غالباً ما تكون من نصيب القصائد الحزينة والبكائية، مثل قصيدة «يا ليل» للشاعر زامل سعيد فتاح وغيرها من الأغنيات الغارقة بحزنها وشكوتها، حتى صار الملحن والمطرب، عنوان الحزن في الأغنية العراقية على عكس طبيعتها وأجوائها الحقيقية... أما المطرب فؤاد سالم، فقد غنّى من قصائد النواب، قصيدة «عودتني» و«أيام المزبَّن» وقصيدة «ترافه وليل» من ألحان كمال السيد.
ما من قصيدة له تحوّلت إلى أغنية، إلا ورافقها الجدال وبعض المشاكل


ما من قصيدة لمظفر النواب تحولت إلى أغنية إلا وكان الجدال وبعض المشاكل مرافقةً لها، فقصائد النواب في العشق والغزل وذكريات الأيام الجميلة، لا تخلو من كلمات وجمل يصعب إدخالها إلى جو الأغنية لو أخذت منفردة، وهذا ما يتطلب بعض التغييرات عليها. تغييرات تأتي غالباً بعيداً عن مصلحة القصيدة وبنائها. هذا ما حدث مع المطرب سعدون جابر الذي اختار قصيدة «مو حزن» ذات الخصوصية العالية، التي يصعب تقديمها كأغنية تطوف أرجاء مجتمع تتغلب فيه نسبة البسطاء والأميين على غيرها، فلا ندري كيف ستقنع الأغنية الفلاح العراقي بأن هناك بلبلاً يستيقظ من نومه متأخراً كأنه موظف كسول! كما جاء في أحد مقاطعها: «مو حزن/ لكن حزين... مثل بلبل كعد متأخر/ لكَه بالبستان كله بلايا تين...» وكيف سيقتنع العارف بقصة البلبل الذي علَّم البابليين صناعة الخمر من التمر، حين تطرح الأغنية ثمرة التين بديلاً عن التمر.
والحقيقة أن أجمل ما قدّم مظفر النواب من قصائد في الأغنية العراقية، هي تلك التي جاءت على شكل مواويل، فالموال العراقي يعتمد الحزن والأنين والمغالاة بإظهار الوجع، تماماً كما هي قصائد النواب. وقد كان للمطرب الراحل رياض أحمد حصة الأسد من إعجاب الجمهور بقصائد النواب، لما أضاف إليها صوته من حلاوة وقدرة أداء عالية.



لسان حال العربي المقهور
في ذلك الوقت، كان يعرف أن العربي الحامل لهمّه على جوعه وعوزه، قارئ غير جيد. ويعرف أيضاً، أن الهمّ الذي تعتمره دواخله على شكل قصائد، لا يمكن أن يكون مرحّباً به في مهرجانات وقاعات «الشرطة الحاكمين». في ذلك الوقت، اهتدى مظفّر إلى صوته، ليحمل قصائده على أشرطة الكاسيت ويدخل البيوتات العربية. وعلى حين غرّة، صار العربي المقهور بأحلامه وجوعه وأوجاع النكسة، يسمع من رحم آلة صغيرة صوت شكواه ويرى حمم بركان روحه المقهورة تتقاذف أمام عينيه، صار يسمع كأنه هو الذي يردّد «الآن أعرّيكم/ في كل عواصم هذا الوطن العربي، قتلتم فرحي/ (...) تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا/ (...) يا شرفاء مهزومين/ ويا حكاماً مهزومين/ ويا جمهوراً مهزوماً...». هكذا أدخل مظفر النواب الشعر إلى بيوت الأميين والبسطاء الكسبة، حطب الثورات ونارها ورمادها.
استطاع بقصائده زحزحة العديد من الجدران والحواجز، وتجاوز المحظورات التي بُنيت بوجه أيّ مُنتَج إبداعي «تحريضي» تحت ذريعة قدسية السلطة. تهاوت الحواجز (داخل الروح البشرية القلقة الخائفة) أمام قصائده، ليس بفعل قسوة الكلمة، ولكن بقوة موقف اتّخذ من الشعر وسيلة تعبير وإن بقي محض شعار تحريضي. صحيح أن قصائده تميّزت بالشتائم، إلّا أنها كانت متنفّس البسطاء، ومصدر تهدئة غضبهم الداخلي، وكانت أيضاً، سبباً في اتّساع جماهيرية النواب عربياً، حتى صار مثار اهتمام الشارع العربي. لقد أضافت «شتائمه» قيمة الشجاعة لقصائده، تلك الشجاعة التي كانت خافية في العديد من نتاج الشعراء. قصائد النواب وإن تجاوزت الخطوط الحمر، وأحدثت ثورة في المفهوم «التعبوي» للقصيدة، إلّا أن بعضهم يرى في قسوتها وجسارتها في كشف عري الدسائس والمهادنات والتنازلات التي يقدّمها العرب بشكل مستمر، إنها في الحقيقة ثورة لم تتجاوز حدود النفس البشرية. ثورة داخلية قمعت حسّ الثورة الحقيقية التي كان لها أن تُترجم على أرض الواقع: «الشعور المر داخل روح المواطن العربي الغاضب، تبخر بفعل سخونة القصيدة الشاتمة...».
ما من شك أن مظفر النواب يشكّلُ ظاهرة شعرية خاصة في الشعر العربي المعاصر. إنه شاعر معارض بامتياز، ومن يعرف النواب، يعرف موهبته في الرسم، ويعرف أيضاً حلاوة صوته، فهو مطرب من طراز خاص أثنى عليه الملحّن كوكب حمزة عندما سألناه عن أجمل «قرار» في الأصوات الغنائية العراقية فقال: «مظفر النواب». يضاف إلى هذا أن النواب يمتلك موهبة التمثيل. لذا فإنّ إلقاءه لقصائده يمتلك تأثيراً خاصاً على روح المتلقّي، فقصائده الملقاة من منصة المسرح غالباً ما تأتي بإيقاع طربي مؤدّى بمهارة الممثل.