عُرف مظفّر النواب كأحد أبرز الأصوات الشعرية الثورية في القرن العشرين، إن لم يكن الأبرز. عوامل عدّة أنتجت تلازماً كبيراً حدّ الاتّحاد بينه وبين الرفض والانقلاب والمنفى ومفرداته وتجليّاته في الحياة الحديثة. يمكن لنا بالنظر إلى تجربة الشعر عند مظفر أن نُعاين ملامح صورة مكتملة لصعلوك عصري، حيث الكائن مُشبع بالخيبة والمثالية، ولا أدلّ على ذلك من نبرته المجروحة الحالمة. وفي لومه الدائم، طوال مسيرته مع الشعر، للواقع الخائب والهزائم المتتالية للإنسان الحالي بشكل عام توصيفٌ واضح لتلك الحالة.بغضّ النظر عن مفردات النقد الأدبي وما لها من تحليلات، على قلّتها، في الحالة النوابية، فإنّ أبرز ما يميّز ظاهرته، وهو ما يُعتبر أساساً في التعاطي مع شعره وفهمه، هو صوته وطريقته في قراءة شعره. فقد عمد إلى إلقاء قصائده برفقة العود أحياناً كثيرة، فضلاً عما تركّز في أدائه صوتياً من غنائية وحساسية مفرطة تتناسبان مع مفردات القصيدة، وما فيها عند النواب من حزن وحنين وتفجّع، وصولاً إلى هجائه الفاحش للأنظمة العربية وحكّامها، وبهذا لا تسهل مقاربة نصه الشعري من دون الالتفات إلى هذا الجانب الأصيل في قصائده. يمكننا بالرجوع إلى سيرته أن نستشفّ مرجعيات هذه النبرة الغاضبة المشبعة بالحزن، وأن نفهم كيف انحاز إلى القصيدة المنبرية الدائمة التقريع، خصوصاً السياسية منها، فما تحفل به حياته من تأثّر بالموروث العراقي الحزين بكل تشكّلاته من موسيقى ومواويل وقصائد شعبية وشعر ومواكب عاشورائية، إضافة إلى ما تعرّض له من قمع وسجن وما مرّ عليه من أزمنة العراق والمنطقة العربية من تخبّط على جميع المستويات كفيل بأن يكشف لنا الكثير مما تحتويه شخصية النواب وشعره على حدّ سواء. ففي ستينيات القرن الماضي، حُكم عليه بالإعدام، بعد سلسلة مُضنية من الملاحقات والتخفّي، على خلفية الصراعات ما بين الشيوعيين والنظام الحاكم آنذاك، وقد قضى فترة منها في الأهواز هارباً؛ ما أتاح له فرصة للتعمّق في النسغ العراقي أكثر فأكثر، ويُشير النواب إلى تلك الفترة بتفاصيلها في قصيدته «بكائية على صدر الوطن»، إذ يقول: «قاومتُ الاستعمار فشرّدني وطني/ غامتْ عيناي من التعذيب/ رأيتُ النخلةَ... ذات النخلة/ والنهر المتشدّق بالله على الأهواز/ وأصبح شط العرب الآن قريباً مني/ والله كذلك كان هنا/ واحتشدَ الفلاحون عليَّ».
شتم الذات العربية المتهالكة، وشكّلت قصائده سجلاً لفضيحتها وكشف تستّرها بالشعارات الواهية


انتفض النواب بالقصيدة إذاً، شتم الذات العربية المتهالكة، وشكّلت قصائده سجلاً لفضيحتها وكشف تستّرها بالشعارات الواهية، كما في قصائده «القدس عروس عروبتكم» و«وتريات ليلية» و«الأساطيل» التي تناولت تزلّف الحكام والنكبات العربية والصمت والتخاذل الشعبي، بلغة منسابة متفجّرة تفيض فيها صور متفاوتة الجمالية، إلّا أنّ لها ذروات خاطفة دقيقة التعبير. ولم تقتصر تجربته على الشعر الفصيح، فله الكثير من القصائد العامية حتى إن بدايات شهرته كانت مع تلك القصائد وقد أخذت حظّها من الشهرة والدراسة من خلال تحوّلها إلى أغنيات شعبية مثل قصيدة «الريل وحمد» الشهيرة التي كُتبت بين عامَي 1956 و1958 ويقول النواب نفسه إنّها فتحت بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة للقصيدة العامية وإنه كتبها متأثراً بممارسته للرسم والأجواء الموسيقية في عائلته، ذلك أن القصيدة تتابع برسم صور متعدّدة عن العراق وبيئته الشعبية كما يُظهر مطلعها: «مرّينه بيكم حمد/ واحنه ابقطار الليل/ واسمعنه دكّ اكهوه/ وشمّينه ريحة هيل»، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الدراسة المهمّة التي أعدّها حسين سرمك حسن بعنوان «الثورة النوابية» التي تناولت إبداعية النواب في شعره العامي خصوصاً.
تُخرج القصيدة عند النواب في كثير من تفاصيلها من عباءة التراث العربي، بمطالعها الغزلية في عدد كبير منها، وبتوصيفات للخمر والسُكر تتشابه مع نماذج في القصيدة العربية التقليدية، وذلك طبعاً بأسلوبه ومغايراته الخاصة، وفي بداية قصيدته «أيها القبطان» وصف جليٌّ لذلك: «اسقنيها وافضحي فيَّ الظلاما/ بلغت نشوتها الخمرةُ في خديك نثر الورد في كأسك الندامى/ وروت مبسمَ ورد نزعَ التاج وألقاه بأرواح السكارى». كذلك كانت للنواب تطرّقات إلى موضوعات تتقاطع بشكل أو آخر مع التصوّف والمتصوفة، وفي هذه المواضع تغلب على خطاب النواب لغة أشبه بالمناجاة والبوح السرائري الخافت وفيض الحميمية في التساؤل والتفكّر في الكون والإله واسترجاع فطرة ما في ذاكرة الشعور، وهذا كلّه أوضح ما يظهر في قصيدته «قافية الأقحوان» التي يقول فيها: «ها أنا أرفع وجهي لسماواتك/ لكن لا أرى شيئاً!/ وها أنت تراني/ فأنا الآن ضرير/ أترى يُبصر من لست تراه؟».
مظفر النواب القصيدة والنبرة الغاضبة حتى التحشرج وتاريخ الحزن المتجذّر الصادق بدأ تاريخ المنافي عام 1963 واستمرّ منفياً. فمروراً بمنفى الداخل والخارج، تأصّلت هذه الحالة وانسحبت على حياته كلّها وعلى شعره الذي كان مصداقاً لها.