في منتصف ستينيات القرن الماضي، كنت لا أزال طالباً في معهد الفنون الجميلة وفي قسم الموسيقى حيث تتلمذت على أيدي كبار الفنانين العراقيين كالفنان الأستاذ جميل سليم والفنان جميل بشير وغانم حداد وسالم حسين وفؤاد رضا وروحي الخماش. كان شغفي بالغناء إلى جانب التلحين والتوزيع الموسيقي قد جرّني للبحث عن كلّ قديم في التراث العراقي القديم والموشّحات وكذلك الألحان العراقية الحديثة وأساليب التلحين بكلّ مدارسه ومتابعة شعراء الأغنية والتلحين لهم منذ بدايات حياتي الفنية، وكنت ألقى الرعاية والدعم في ذلك من أساتذتي في المعهد.وأخيراً عثرت على قصيدة «للريل وحمد» للشاعر مظفر النواب بواسطة أحد الأصدقاء المهتمّين الذي حدّثني كثيراً عن النواب الشاعر الثائر المناضل الذي لم ألتقِ به بعد. فقد شدّني الحديث عن النواب أكثر لقصيدة «للريل وحمد» التي لمست فيها روحاً جديدة في نَظم الشعر الشعبي العراقي بل أسلوباً جديداً لم أعهده عند بقية الشعراء الشعبيين من حيث الصياغة والأوزان والصور. بعدها، صرت أبحث عن مؤلّفاته الأخرى بأيّ شكل؛ لأنّها كانت ممنوعة بعد الانقلاب الفاشي في 1963 وصعوبة الحصول عليها زاد من قيمتها لدى الناس، وبالأخص بيننا نحن من نحمل ذات الأفكار التقدمية الإنسانية.
عام 1965، لحّنت قصيدة «للريل وحمد» وكنت لا أزال طالباً في المرحلة النهائية للمعهد، فقد اخترت منها بعض المقاطع كي تصبح أغنية متداولة وتُذاع في الإذاعة بحدود خمس دقائق كوقت مقبول لدى لجنة فحص الأغاني في الإذاعة والتلفزيون. أسمعتُ اللحن لأساتذتي جميل سليم وروحي الخماش أحد أعضاء لجنة فحص الألحان بدار الإذاعة، حيث أبدى إعجابه كثيراً، بل وقال لي هذا اللحن يسبق عصره من ناحية الجمل الموسيقية والانتقالات، كذلك الأستاذ جميل والأستاذ الملحن وعازف القانون سالم حسين، ما شجعني كثيراً على أن أسجّل اللحن في الإذاعة، إذ كنت أعمل ضمن فرقة أبناء دجلة للموشّحات الأندلسية إلى جانب مطربين كبار يوم كان يقودها الأستاذ روحي الخماش.
لجنة فحص النصوص الغنائية وافقت على النصّ فوراً من دون نقاش لأنه مظفر النواب. أمّا اللحن، فقد قدّمته أمام لجنة فحص الألحان وكانت تتكوّن من الأساتذة روحي الخماش وعز الدين صدقي وعبد الحليم السيد ووديع خوندة وبرئاسة مدير برامج الموسيقى الملحّن علاء كامل. جميع أعضاء اللجنة وافقوا فوراً على اللحن بل أثنوا عليه إلا علاء كامل الذي رفضه وقال بالحرف الواحد: «مو زين قبلنه انرجعك للإذاعة؟ إنته شيوعي وجايب النه هالمرة مظفر النواب الشيوعي؟ هذا اللحن ما يتسجل ومرفوض»، ومن يومها ولأسباب مشابهة لم تقُم لي قائمة في الإذاعة وحوربت بشتى الوسائل والمضايقات الممكنة حتى عام 1973 حين مُنعتُ من دخول الإذاعة والتلفزيون لمواقفي وأفكاري بل ومُسحت كلّ أغنياتي ولم أعثر عليها لاحقاً وضاع كل أرشيفي الغنائي والموسيقي.
وبعد سنوات عديدة لُحنت وسُجلت الأغنية من قِبل آخرين، وغنيت وأُذيعت واشتهرت، كونهم كانوا قريبين من أصحاب القرار والمسؤولين في الإذاعة والتلفزيون ولم يعترضوا على اسم مظفر النواب، في حين بقي لحني لأغنية «للريل وحمد» خارج الإذاعة والتلفزيون وكنت أغنيها في الحفلات الخاصة فقط وبين الأصدقاء وفي المعهد.
عام 1999 تمكّنت أخيراً من إنتاج ألبوم «الغريب» على حسابي الخاص الذي يضمّ مجموعة أغاني من ضمنها أغنية «للريل وحمد»، وكان لا بدّ لي من التواصل مع شاعرنا الكبير مظفر النواب للحصول على موافقته الخطيّة لشركات التوزيع كي يتم ذلك. ومن خلال بعض الأصدقاء اهتديت أخيراً لشاعرنا وتم التواصل معه وقدّم لي مشكوراً الأغنية كهدية منه ولم يوافق على تقاضي أيّ أُجور عنها. كذلك الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة والشاعرة وفاء عبد الرزاق والشاعر رسول الصغير، ولأن الكلّ من المغتربين أسميت الألبوم بالغريب.
ومرة أخرى تعرّضت لمحاربة من نوع آخر حيث امتنعت شركة «روتانا» بعد الاتّفاق معها عن توزيع ألبوم «الغريب» الذي يضمّ أغنية «للريل وحمد» لمظفر النواب و8 أغانٍ أُخرى لشعراء آخرين ذكرتهم أعلاه. وكان سبب الرفض واضحاً كوننا معارضين أنا ومظفر النواب.
بعدها اتّفقت مع شركة «سي دي» العالمية للإنتاج الفني لتوزيع الألبوم وتصوير أغنية «للريل وحمد» بالذات. وقبل التصوير الذي كان مأمولاً أن يتم في سوريا في دير الزور ومناطق أخرى لوجود قطار وقرى وأجواء مشابهة لأجواء العراق.
وإذا بالشركة وقبل التصوير بيوم تمتنع أيضاً عن تصوير الأغنية وإلغاء المشروع كلّه بحجة أنني معارض للحكم في العراق وكذلك مظفر النواب، وأن أغنية «للريل وحمد» هي أغنية سياسية و...و... إلى آخر الحجج والحكايات، وأخبروني أن بعض الفنانين العراقيين الموجودين في الإمارات ممن أخبروهم بذلك، وقالوا لهم بأننا أنا ومظفر النواب معارضون للحكومة العراقية. وبالرغم من خسارتي ومحاربتي، فرحت جداً لهذه التهمة والشهادة القيّمة بانتمائنا للشعب العراقي كمعارضين وليس للحكومة الديكتاتورية.
تمكّنت من إنتاج ألبوم «الغريب» على حسابي الخاص الذي يضمّ مجموعة أغنيات من ضمنها «للريل وحمد»


كنت على الدوام أذكر في مقابلاتي التلفزيونية والإذاعية وفي الصحف «أن هناك شعراً شعبياً قبل مظفر النواب وشعراً شعبياً بعد مظفر النواب»، لأن الشاعر مظفر النواب برأيي كملحن ومغنٍّ يعدّ مدرسة جديدة في الشعر الشعبي العراقي وجاء بصور وأوزان ومفردات شعرية جميلة جديدة لم تكن معروفة قبل ذلك. عام 2000 التقيت بشاعرنا الكبير مظفر النواب لأوّل مرة حين زار دولة الإمارات حين كنت أعمل مستشاراً في مجمعها الثقافي لسنوات وكان لقائي به حدثاً كبيراً لن أنساه واكتشفنا أننا نعرف بعضنا البعض من دون أن نلتقي قبلاً، بل من خلال الأفكار والاستماع لأعمال بعضنا البعض والهدف المشترك الذي يجمعنا في الحياة. أسمعته لحن أغنية «للريل وحمد» بتوزيعها الجديد. ابتسم وقال هذا ما كنت أنتظره، إنه لحن جميل ومعبّر. تكرّر لقاؤنا أكثر من مرة بل كنا طيلة بقائه في الإمارات نلتقي يومياً تقريباً إما في منزلي أو عند بعض الأصدقاء في سهرات ولقاءات فنية وأمسيات شعرية لا تُنسى. وتكرر لقاؤنا في زيارات أخرى للإمارات وكذلك في دمشق حين زرته عام 2008 في بيته المتواضع وفي أمسيات فنية أخرى جمعتنا ببعض الأصدقاء والفنانين. يمتاز الشاعر الكبير مظفر النواب بصوت غنائي جميل ومن محبيّ كوكب الشرق أم كلثوم كما يسميها ويردّد أغانيها بشوق وقد رافقته كثيراً بآلة العود في أمسياتنا.
سيبقى مظفر النواب قامة شعرية كبيرة وقصائده وأشعاره تراثاً وطنياً تفتخر به كلّ الأجيال المقبلة.

* مطرب وملحن عراقي