الكتابة طقس خاص، حسب تعبير الأدباء. والمقصود بالعبارة هو قدسية فعل الكتابة، ولا سيّما الإبداعية منها. ومن أفعال الكتابة ما هو صارم ورصين وأنيق، ومنها ما هو عفويّ وفوضويّ. ومن النمط الفوضويّ كتّاب وشعراء كبار، فالجواهري حين يأتيه شيطان الشعر (أو ملاكه) يكتب على أقرب قصاصة ورق يجدها في طريقه. فيما يكتب مظفر النواب شعره على ورق مصقول وملون، غاية في الأناقة.ومن يرى الحروف الصغيرة، التي يكتب بها مظفر قصائده، يتعجّب من قدرته على إعادة قراءة ما يكتب. وفي مرة من المرات، نسي مظفر واحدة من كراساته الأنيقة تلك في بيتي في دمشق، بعد سهرة طويلة، وعندما وجدت الكراسة مركونة على أحد الكراسي، في صباح اليوم التالي، شعرت كأنّني وجدت كنزاً، لكنّني أعدتها له صباح اليوم نفسه، لأنني فشلت في فكّ طلاسم الحروف.

كيف تكتب الشعر؟
سألت مظفر ليلتها، كيف تكتب الشعر، هل تحزن أم تفرح، هل تصمت أم تغنّي أثناء الكتابة، هل يمكن وصف لحظة الكتابة الشعرية وظروفها المحيطة وطبيعتها النفسية والحسية؟ قال مظفر: في الواقع ليس هناك شكل محدّد للكتابة الشعرية ولا مكان أو وقت معين، لكن ربّما كان آخر الليل هو من أفضل الأوقات، بسبب الهدوء وانتهاء المرء من مشاغل اليوم. وأنا شخصياً كتبت معظم قصائدي أو بداياتها، في أوقات الليل. أمّا لحظة الكتابة الشعرية فهي تشبه، كما أرى، الطريقة القديمة لعمل الخمرة. فقد كانوا، حين يريدون تقطير الخمرة، يجرحون النخلة من عند الرأس ويضعون حول الجراح وعاءً أو كيساً، ثم تبدأ النخلة تقطّر شيئاً فشيئاً وبعد أن تتجمّع هذه المادة أو هذا السائل، يتركونه فترة من الزمن حتى يتخمّر. الشاعر كذلك، يستطرد مظفر، حين يستفزّه مشهد ما، أو حدثٌ ما، اجتماعياً كان أم جمالياً، فإنّ ذلك يؤدّي إلى إحداث ذلك الجرح في أعماقه، وكما يحدث للنخلة، تبدأ مادة الشعر بالتقطّر والتسرّب ثم تصبح شكلاً جمالياً محدّداً. وبالنسبة لي حين يحدث ذلك الجرح، أحتاج إلى الصمت في البداية، بل إنني أنفر من القلم والورقة، في تلك اللحظات، لأنها، باعتقادي، تعيق أو تفسد اللحظة الشعرية، ولكن بعد ذلك، بعد أن أقطع مسافة، في ما يمكن تسميته بالكتابة الداخلية، أبدأ بوضع المادة على الورق.
ومظفر النواب بالنسبة إلى العراقيين شاعر شعبيّ من طراز رفيع، لكنّه بالنسبة إلى العرب شاعر الفصحى المتمرّد، والهجّاء. وربّما كان مظفر الوحيد الذي ظلّ يجمع بين الكتابة بالفصحى والكتابة بالعامية، ثم إن هناك، كما أعتقد، فارقاً روحياً ونفسياً بين القصيدتَين لدى مظفر، فهو يكتب الفصحى بمداد العقل ويكتب العامية بمداد القلب، وهو فارق كبير لا يعرفه سوى العشاق الكبار. قلت لمظفر في تلك الليلة: هناك من يفضّل شعرك المكتوب بالعامية على شعرك الفصيح، أو بالعكس أحياناً، كيف تنظر إلى هذه المفارقة، وهل ترى أن هناك فوارق في الكتابة، وأين تجد أنت، متعتك في الكتابة؟ قال مظفر: كلّ معنى من المعاني وكلّ حسّ من الأحاسيس يكوّن لغته الخاصة، أي أن هذا المعنى أو هذا الحسّ، هو الذي يأتي بمفرداته، سواء من الفصحى أو من العامية، ولذلك تختلف قصيدة عن قصيدة أخرى بمفرداتها. ونحن، بسبب طبيعة التطوّر الحضاري العربي، حصلت لدينا هذه الازدواجية بين الفصحى والعامية. فعلى صعيد الكتابة الشعريّة، قد تجد أحياناً، أن الفصحى لا تفي بغرض الكتابة أو بغرض ما تريد كتابته أو قوله، وأحياناً يحدث العكس. أي أن تجد العامية لا تفي بهذا الغرض، ولهذا فلكي تعبّر عمّا تريد فإنّك ستستخدم الأداة التي تفي بغرضك وبحاجتك وبشحنتك العاطفية، سواء كانت هذه الأداة اللغة أو اللهجة. وبرأيي (وما زال الحديث لمظفر) ما دام هذا هو واقع الحال فإنّ استخدام الأداتَين أمر طبيعي، على الرغم من الفارق بين القصيدة المكتوبة باللغة الفصحى وتلك المكتوبة بالعامية، فالأولى يمكن أن تسمع من المغرب العربي إلى الخليج، أمّا الثانية فحدودها البلد نفسه، أو بعض البلدان التي تنتشر فيها هذه العامية.
وسألت مظفر عن العراق، فتأمّلني بجزع ثم ترقرقت دمعتان في مقلتيه، كلّ العالم جميل، قال مظفر، بعدما غالب الدمعات أو غافلهن، لكن الأجمل هو العراق، وكلّ المدن جميلة، لكن الأجمل هي بغداد. ثم أضاف قائلاً: بعد مغادرتي العراق، وأنا في الطائرة فوق بغداد، كان عندي إحساس داخليّ بأني لن أعود إليها لزمن طويل، فكتبت، في تلك اللحظات، مقاطع قصيرة، بهذا المعنى، وأنا أشاهد، لآخر مرة، أبنية بغداد وجوامعها وجسورها من الطائرة. هذا الإحساس الداخلي، يضيف مظفر، كان بمثابة تمهيد بالنسبة لي. تمهيد لتحمّل الزمن والغربة التي عشتها بعد ذلك. وقد يكون ذلك الشعور متأتّياً من فهمي لطبيعة الأوضاع في العراق ولطبيعة السلطة الدموية، التي جاءت آنذاك، بسبب، أو نتيجة لأخطاء القوى السياسية.
سألتُه عن العراق، فتأمّلني بجزع ثم ترقرقت دمعتان في مقلتيه


كذلك، كان ذلك الشعور متأتياً من طبيعة حياتي السياسية التي عشتها في العراق، أي حياة السجن والتخفّي والهرب بعد ذلك إلى إيران، ومن ثمّ الحكم عليّ بالسجن المؤبّد. طبعاً من الناحية الروحية، كانت الأشهر الأولى للغربة هي الأصعب، خاصة أنني كنت أحب بغداد وأحنّ إليها، حتى عندما كنت داخل العراق. قبل أن نودعه قلت لمظفر... هل تذكر القصيدة التي قرأتها لنا قبل عشرين عاماً، وكان عنوانها «يجي يوم نرد لهلنه» لقد جاء هذا اليوم الذي تنبأت به، وها نحن سبقناك «وردينا لهلنه» ها نحن بانتظارك «نفرك الغربة على العالم ملبس، والحزن طاسات حنه» ها نحن «نعكد خيوط الشمس بدرابين كل الناس» فتعال يا أبا عادل، العراق بانتظارك.
بعد سنوات من ذلك اللقاء عاد مظفر إلى العراق، لكنه لم يلبث طويلاً فعاد أدراجه، مرة أخرى، إلى حيث الغربة، كما قال لي يوماً: «لقد أدمنت الغربة إلى درجة أعتقد معها أنني لو عدت إلى العراق فسأحنّ إلى الغربة مرة ثانية».

*شاعر وإعلامي عراقيّ