القاهرة | لا نبالغ عندما نعتبر سمير صبري (1936 ـــ 2022) بمثابة مؤسسة ترفيهية متكاملة، فهو من الاستثناءات الفنية التي يمكن أن نطلق عليها صفة «فنان شامل». الممثل المصري الذي انطفأ أمس بعد صراع مع المرض، عمل مذيعاً، ومغنياً، وممثلاً، ومنتجاً، بالإضافة إلى كاتب سيناريو حلقات برنامجه «كان زمان» الذي حكى تاريخ الفن في مصر، واستضاف العديد من الشخصيات الفنية الكبيرة في تاريخ السينما المصرية، أو مثل التحقيق المصوّر المطوّل الذي قدّمه في حلقات عدة عن موت سعاد حسني. وصف «الفنان الشامل» في حالة صبري، يشير أيضاً إلى قدرته على التنويع في الأدوار التي قدّمها بين كوميدي وتراجيدي، رومانسي أو أكشن، استعراضي أو ميلودرامي في جميع فنون التمثيل من السينما إلى التلفزيون فالإذاعة. فنان قادر على التلوّن في أدواره، استطاع إقناع المتفرج بطبيعة أي شخصية يؤديها، وتمتع بـ «كاريزما» كمذيع ومقدّم برامج، وتمكّن من العديد من اللغات، وربطته علاقات شخصية وطيدة مع الجميع. فنان «جاد» جدية نادراً ما نصادفها. جاد في كل كبيرة وصغيرة في حياته الفنية والشخصية. صبري الذي ولد في الإسكندرية، نشأ طفلاً وصبياً في عائلة تقدّر الفن، فبدأ الولد الصغير يتعلق به ويعشقه، خصوصاً عندما اكتشف قدرته على تقليد الفنانين الذين يشاهدهم على شاشة السينما وخشبة المسرح. تطور العشق بدخوله إحدى أهم المدارس في مصر (فيكتوريا كوليدج). تعلّق صبري بفن التمثيل، ومن قبله يوسف شاهين وعمر الشريف من خلال مسرحيات شكسبير التي مثّلوها على مسرح المدرسة.
ومن الإسكندرية إلى القاهرة التي انتقل إليها والداه، كان صبري يعود إلى بيته في حي العجوزة، حيث كان يرى النجوم على أرض الواقع وأهمهم نجم الخمسينيات الأشهر عبد الحليم حافظ. تلك المصادفة التي جعلته يقترب من «العندليب الأسمر»، لعبت دوراً كبيراً في المرحلة الأولى لبدايته كممثل، إذ حدث أكثر من مرة أن غاب ممثل شاب عن تأدية دوره في أحد الأفلام، فتمّت الاستعانة بصبري. تكرّر ذلك في فيلمَي «اللص والكلاب» (1962)، و«زقاق المدق» (1963). واصل صبري تأدية الأدوار الصغيرة ذات الطبيعة المحددة التي تلخصها الكاتبة ناهد صلاح في كتاب «سمير صبري... حكايتي مع السينما». تورد أنّ أدواره في المرحلة الأولى لدخوله عالم التمثيل كانت «نموذجاً متكرراً للشاب الصغير ذي اللكنة المكسورة والشكل الغربي، الشاب «المتفرنج» أو الخواجة الذي يظهر أحياناً في دور الشرير الذي ينتمي إلى عصابة دولية خطيرة ضمن أحداث محورها الكوميديا... أو أن يكون صاحب البطل أو غريمه الذي ينافسه على حب الفتاة. لكنه لا يتحمل المواجهة ولا يكمل معركة من أجل فتاته، بل في الغالب يحصل على «علقة ساخنة» ينتهي الفيلم بها». لم يجد صبري حظاً وفيراً في حقبة الستينيات، بل نادراً ما شهدت تلك الفترة تميزاً ما لأدواره أو خروجاً عن الأنماط السابقة الذكر. ولكن من الناحية الأخرى، تميز صبري كمذيع وصوت نقي جذاب.
مع بداية السبعينيات، أخذ تفكيره تجاه الأدوار التي يقدمها في السينما، يتغير وينضج. لم يعد يرضى بالأدوار التقليدية التي حصرها به المخرجون والمنتجون. راح يبحث عن شخصيات مختلفة، أغلبها نبيلة متمسكة بالمبادئ، عطوفة يملأ الحبّ قلبها، حنونة ومتفهّمة لنقاط ضعف الآخرين. تجلّى ذلك في أفلام مثل «حب وكبرياء» (1972)، و«غابة من السيقان»، و«حكايتي مع الزمان» و«الوفاء العظيم» (1974). هذا التحول جعل السبعينيات بمثابة المرحلة الذهبية في تاريخ صبري كممثل، خصوصاً مع حصوله على فرصته الحقيقية الأولى من خلال فيلم «بمبة كشر» (1974)، أولى بطولات نادية الجندي. كان الفيلم مغامرة أقدم على إنتاجها زوجها في تلك الفترة الفنان الراحل عماد حمدي. قبِل سمير صبري مشاركة الجندي البطولة التي رفضها العديد من النجوم الشباب في تلك الأيام خوفاً من الفشل. لكنّ الفيلم نجح تجارياً بشكل كبير وفتح طريق النجومية على اتساعه لنادية الجندي وسمير صبري. وبدأت مرحلة جديدة من الأدوار والأفلام الهامة، إلى حد ما تلقى النجاح التجاري والفني. كان صبري يعتني في تلك الفترة بإظهار قدراته التمثيلية، خصوصاً في الأعمال الميلودرامية التي كان يفضل أن يقدم بها أدوار الخير على عكس أدوار الشر التي بدأ بها مشواره. لكن رغم المجهود الذي بذله، فقد ظلت البطولات المطلقة تخاصمه وتتجاهله، مع أنّ ملامح البطل كانت متوافرة لديه. ولكنّ الوسامة والأداء التمثيلي الكلاسيكي، لم يكونا ما يبحث عنه الجمهور وصناع السينما آنذاك، خصوصاً مع ظهور موجات جديدة من الفنانين في الكتابة والتمثيل والإخراج. وكان السعي وراء الوجوه الطازجة التي تختلف عن نجوم سينما الأبيض والأسود، يطغى على الساحة...
حاول صبري من جديد، وأعاد الكرة من خلال عدد من الأفلام أنتجها بنفسه، لينال من خلالها البطولة الأولى التي تأخرت عليه. أولى المحاولات كانت في ما يطلق عليه الأفلام الكوميدية الرومانسية. جاءت البداية مع فيلم «أهلاً يا كابتن» (إخراج محمد عبد العزيز ــــ 1978) وشاركت صبري البطولة فنانة تمثل النسخة النسائية لرحلته في عالم الفن، فنانة «شاملة»، تهتم بإظهار قدراتها التمثيلية الدرامية والكوميدية، لديها الملامح الأجنبية الجذابة نفسها. إنّها نيللي التي شكّلت مع صبري ثنائياً متناسقاً ورائعاً على الشاشة الفضية. أمر دفعهما لتكرار تجربة العمل سوياً في ثاني إنتاجات صبري «شفاه لا تعرف الكذب» (إخراج محمد عبد العزيز ـــ 1980). لعل تألّق صبري ونيللي معاً كـ «دويتو سينمائي»، ظل عالقاً في ذاكرة الناس لسنين طويلة.
استمر صبري في محاولاته الإنتاجية ورغبته في خوض البطولات المطلقة لمدة 23 عاماً، أنتج فيها 11 فيلماً، ربما كان أهمها «دموع صاحبة الجلالة» (إخراج عاطف سالم ـــ 1992) حيث جسّد شخصية الصحافي الانتهازي «محفوظ عجب»، بطل الرواية التي حملت العنوان نفسه للكاتب والصحافي موسى صبري. هذه الرواية يضرب ببطلها المثل في عالم الصحافة عند الإشارة إلى أي صحافي طفيلي أو انتهازي. وشارك في بطولة الفيلم مع البطل المنتج سمير صبري، نخبة من الفنانين الكبار كفريد شوقي، ويحيى شاهين، وأمينة رزق، وأحمد مظهر ومعهم سهير رمزي.
بعد ذلك، تباطأت خطوات صبري، أحياناً بفعل الزمن وغالباً بسبب الحالة الفنية التي سادت مصر على مستوى السينما، تحديداً مع بداية التسعينيات وقلة الإنتاج والإقبال الجماهيري على الأفلام المصرية. مع ذلك، لم يستسلم. ظلّ يشارك بين الحين والآخر في أدوار ثانوية، ولكن مؤثرة في بعض المسلسلات مثل «يا ورد مين يشتريك» (2004)، و «حضرة المتهم أبي» (2006)، و «قضية رأي عام» (2007).
ومع مرور الزمن، تقلّص ظهور الفنان الشامل ليتحول إلى ظهور شرفي في بعض الأفلام والمسلسلات التي أدّت بطولتها مجموعة من الشباب الذين نشأوا على أعمال صبري. شباب لم ينسوا لحظاته السينمائية الجميلة التي ارتبطت بها ذكريات طفولتهم وأغانيه التي طالما علقت في أذهان الصغار وردّدوها في أوقاتهم المرحة مثل أغنيته الشهيرة «سكر... حلوة الدنيا سكر». صور وأصوات ستظل في الذاكرة، لا يمحوها الزمن ولا يغيّبها الموت.