أما النوع الثالث من المنع وهو الأكثر ذكاءً وينم عن سلطة أكثر حرفية وامتلاكاً للنفوذ وقدرة على تتبّع العمل من زوايا مختلفة، أن يأتي المنع بعيداً من قبضة المؤسسات الأمنية والشكل المباشر التقليدي لسلطة الدولة الرقابية التي تستهدف العمل الفنّي سواء من أجل مضمونه، أو من أجل الشخصيات القائمة عليه. هكذا، يُمارَس الضغط هذه المرة على مصدر الإنتاج للعمل الفنّي من أجل إيقاف تمويله، وبذلك لن يكون هناك عمل من الأساس كي يتم منعه أو طرحه في الصالات أو على الشاشة. وفي الوقت ذاته، سيأتي الأمر في منأى عن قبضة الدولة واعتباراتها ومعاييرها. النوع الثالث من المنع شاهدناه أخيراً حين صرّح الكاتب والسيناريست المصري بلال فضل أن قناتي «الحياة» و«المحور» الفضائيتين المصريّتين تراجعتا عن عرض مسلسل «أهل إسكندرية» الذي كان مقرراً في شهر رمضان. علماً أنّ المسلسل من تأليف فضل، وبطولة عمرو واكد وبسمة وهشام سليم، وإنتاج «الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي»، وتلفزيون «الكويت»، وإخراج المخرج الكبير خيري بشارة.
أصدرت قناة
«المحور» بياناً بأنّها لم ترفض عرض المسلسل
حالما صرّح فضل بذلك، بدأت الصحف بتداول الخبر. وخلال ساعات، صدر بيان عن قناة «المحور» بأنّها لم ترفض عرض المسلسل، بل ستعرضه فعلياً على شاشتها خلال شهر رمضان، وبهذا انتهت الأزمة أو هكذا بدا للجميع، واستتب الأمر. لكن أول من أمس، جاء الخبر الذي انتقل على لسان السيناريست بلال فضل بأن الجهة الكويتية المشاركة في إنتاج المسلسل (تلفزيون الكويت) قد انسحبت من إنتاجه، وأنه قد تم إبلاغ فضل رسمياً بتوقف العمل في المسلسل واستحالة عرضه في رمضان 2014.
وأضاف مؤلف «أهل إسكندرية» أنه قد علم بأنّ «تلفزيون الكويت» قد انسحب من إنتاج المسلسل بسبب خشيته من الصدام السياسي مع الحكومة المصريّة بدعوى أنّ «المسلسل ينتقد جهاز الشرطة المصريّة»، ما وصفه القائمون على الإنتاج بالأمر المرفوض.
وقد استنكر فضل الأمر، موضحاً أنّ «الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي» قد وافقت على المشاركة في إنتاج المسلسل منذ البداية، علماً أنّها مؤسسة حكومية مصرية ولم تجد أي حرج في ذلك، فما الذي يدعو «تلفزيون الكويت» إذاً للانسحاب من إنتاج المسلسل والتبرؤ منه؟
الأمر هنا لا يتعلّق بشخوص القائمين على العمل فقط. الجدير بالتأمّل وبالخوف أيضاً في هذه القصة هو وجود آليات جديدة للمنع من دون أن يستطيع صاحب المنتَج الفنّي أن يتظلّم أو يضع اصبعه فقط على السبب الحقيقي والمتسبب فيه. كما لا يستطيع أحد أن يجزم بوجود ضغوط حقيقية على جهة الإنتاج المنسحبة أم أنها قد تطوّعت مجاملةً لنظام سياسي، أو حكومة ذات توجهات محددة ومصالح مشتركة معها. على أقل تقدير في هذا الحادث، نحن أمام واقعة إجهاض لعمل فنّي من قِبَل جهة إنتاج بدأت في تمويل العمل، ثم توقّفت فجأة من دون وجود ما يحفظ حق المبدع في خروج عمله إلى الجمهور بعدما اعتمد على جهة إنتاج لم تفِ بالتزاماتها. وهنا أيضاً، سنصبح أمام إطار مؤسسي لا يوفّر لصاحب الإبداع الحد الأدنى من الأمان لخروج عمله إلى النور. وسنصبح أيضاً أمام حالة من الخوف من امتداد تلك الظاهرة إلى أعمال أخرى وأعمال تلي الأعمال الأخرى، وستظهر الضرورة المُلحّة لوجود جهات تتولى حماية الأعمال الفنّية من الاستغلال والإضرار والمنع.