لا يستطيع المرء، عموماً، التعاطي بشكل عادل مع معطيات كثيرة معاً. لا طاقة لديه على التعامل مع مجموعة من الأحداث عندما تتزامن وتكون أهميتها كبيرة، بالنسبة إليه. مساء الاثنين الماضي كان اختباراً لقدرة العقل على تلقي المعلومات والتفاعل معها بما يعطي الأحداث المتزامنة حقّها من التحليل، أو أقلّه الاستيعاب. أما التحدي الأكبر فيكمن في استنفار مناطق مختلفة من الدماغ، تلك المخصّصة لمعالجة مواضيع متناقضة أو متباعدة كالسمع والنظر، الفرح والأسى، الخوف والنشوة، الحماسة واليأس...
هذا «الهجوم» الذي داهم الرأس من كل الجهات حصل في بيروت. في رأس بيروت تحديداً. في شارع المكحول الهادئ دائماً رغم الصخب الذي يحاصره من ناحيتَيه الغربية القريبة (شارع بلِسّ) والشرقية (شارع الحمرا الرئيسي). ليل الاثنين، كان زياد الرحباني يعزف مع فرقته في نادي «بلو نوت». بدأ البرنامج قرابة العاشرة وانتهى الفصل الأول منه مع انطلاق مباراة البرازيل والكاميرون. بعد الاستراحة، كان نيمار الجميل قد سجّل الهدف الأول. انطلق الفصل الثاني من الأمسية. زياد مع البرازيل علناً. أعضاء الفرقة، المتعددو الجنسيات، يشجّعون بطبيعة الحال فرق بلادهم التي تشارك في المونديال: ليتي النجار، عازفة الساكسوفون، مع المكسيك وترتدي في الأمسية قميص عمر برافو. فوالدتها مكسيكية. مارتين، عازف الترومبت، أرجنتيني. أرنو، عازف الدرامز، فرنسي. جان مدني عازف الباص الكهربائي مع البرازيل وكذلك عازف الغيتار عادل منقارة والمغنية لوريت الحلو. إذاً، حصة الفريق الأصفر طاغية على الفرقة بوضوح. في الجمهور وبين العاملين في الـ«بلو نوت» يستحيل ألا يكون هناك مشجّعون للبرازيل. في كل الأحوال، المباراة تهمّ الجميع. في الجهة المقابلة للمكان الذي رُكن فيه البيانو، وبالتالي الفرقة، شاشة صغيرة تنقل المباراة، صورة بدون صوت. جان مدني، الذي يبدو أكثر المتحمّسين لكرة القدم، يلعب سطره من الموسيقى ويرمي نظرة على الشاشة متى تتيح له ذاكرته اللعب دون الاستعانة بالنوتة، ثم ينقل آخر الأخبار إلى الفرقة بين مقطوعتَين. يسير البرنامج الموسيقي بمحطاته الجميلة التي لا تسمح للعين بأن تلهي الأذن لأن الخسارة كبيرة غالباً مع زياد وفرقته، وبالأخص في هذا النوع من الأمسيات، علماً بأنها تبدو للبعض أن لا شيء استثنائياً يحصل فيها. إنه خطأ فادح يرتكبه هؤلاء بحق أنفسهم أولاً وبحق ضمير زياد الرحباني المهني الذي يتعاطى مع الأداء هنا ودائماً، كما لو أنه يقدِّم أهمّ حفلة له.

زياد مع البرازيل علناً. أعضاء الفرقة المتعددو الجنسيات، يشجّعون فرق بلادهم
وهذا ما يجب أن يدركه دائماً كل من ينوي حضور أمسياته «العابرة» هذه. خلال الفصل الثاني، وبينما كانت البرازيل تتقدّم، وعند منتصف الليل أو حوله، وربما خلال أداء تحفة تيلنيوس مونك Round Midnight، أمّنت الهواتف الذكية نقل خبر تفجيرٍ انتحاري في الطيونة. ماذا يشعر الإنسان في هكذا لحظة؟ إلى أين يوجّه تركيزه؟ ما هي الأولويات؟ طالما أنه يمكن الاكتفاء برَصْد بضع ثوانٍ للمباراة، أي لأهم ما فيها، أي النتيجة وتطوراتها، فالأولوية للموسيقى قطعاً... وإن كان مشجعاً للبرازيل وهي متقدّمة وعاشقاً للموسيقى وهي جميلة فلا مشكلة: الفرح لا يتضارب مع الفرح، ولو أن الأذن تعشق أكثر من العين أحياناً. لكن عندما تسيل الدماء، وبهذا الأسلوب، تتعقد الأمور في الرأس. الموت أقوى من الموسيقى. صحيح. لكن أليست الموسيقى أيضاً سلاحاً ضده؟ ضد هذا النوع من الموت تحديداً؟ مسكين هذا الانتحاري. ليته قرّر التخلّي عن هذه اللعبة الوسخة وانضم إلى الحياة، فشاهد المباراة أو سمع موسيقى. مسكين لأنه وضحاياه ضحية أصدقائه. هؤلاء المجرمون الحقيقيون. وبالتأكيد عندما فجّر نفسه كانوا غارقين في أثاث قصورهم الفخمة يتابعون «ماتش» البرازيل ضد الكاميرون و«ماتشه» ضدّ «السلم الأهلي»... 4_1 نتيجة الأوّل. أما الثاني فانتهى بالتعادل. طوى زياد دفتر نوتاته. مسّى على الحضور وغادر إلى البيت بهدوء، لتبدأ رحلته اليومية مع نسخته الخاصة من سؤال «ما العمل؟»: بالنسبة لبكرا... شو؟