في بداية الشهر الماضي، قدّم «الاتحاد الدولي للصحافيين» بمعية «نقابة الصحافيين الفلسطينيين» و«المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين» إلى جانب محامين مخضرمين في حقوق الإنسان، شكوى إلى «المحكمة الجنائية الدولية» تتهم «إسرائيل» بارتكاب جرائم حرب، من خلال استهدافها الصحافيين في فلسطين، وتقاعسها عن التحقيق القضائي وإفلاتها من العقاب. تستند الشكوى إلى شهادات صحافيين اغتيلوا قنصاً أو أصيبوا على يد الاحتلال الإسرائيلي في غزة، رغم ارتدائهم سترات تشي بعملهم الصحافي. وقد بلغ عدد الصحافيين المغتالين على يد جيش الاحتلال 46 صحافياً منذ عام 2000، في ظل غياب أي محاسبة أو مساءلة. أمس، استُشهدت مراسلة «الجزيرة» في فلسطين شيرين أبو عاقلة، برصاص حيّ مباشر على رأسها، أثناء تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال مخيّم جنين، لتنضم إلى قافلة الشهداء الصحافيين، الذين اغتالتهم «إسرائيل» بدم بارد وعلى مرأى «العالم الحرّ». خبر استشهاد أبو عاقلة، التي قضت أكثر من ربع قرن في عملها الميداني الحربي، وتميّزت مسيرتها بالنضال ونقل صوت الحقيقة من قلب فلسطين، يتقاطع اليوم مع مسار تطبيعي فاقع، قادته دول عربية وخليجية منذ ثلاث سنوات، مَهمته غسل جرائم الاحتلال وتلميع صورته. وها هو اليوم، يعيد الكرّة مع خبر استشهاد أبو عاقلة، رغم وضوح الجريمة والجناة. الخبر الذي استحوذ على اهتمام الصحافة العربية والخليجية والغربية، وتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي، حلّ ثقيلاً على المنصات الخليجية والأجنبية الناطقة بالعربية التي راحت تخفّف من هول الجريمة، وتبرّر ارتكابها. فقد تصدّرت عبارة «وفاة» غالبية هذه المنصات بدل «استشهاد»، أو بأقل تقدير «اغتيال» أو «مقتل» للإيحاء بأن الصحافية الفلسطينية توفيت جراء ذبحة قلبية ربما. في خبر تغطيتها لاستشهاد أبو عاقلة، راحت قناة «سكاي نيوز عربية» الإماراتية تنقل رواية الاحتلال الإسرائيلي، وتجهيله للفاعل عبر قوله بأن هناك «مراسلين أصيبوا خلال اشتباك بين قواته ومسلحين في الضفة». القناة ضمّت أيضاً إلى خبرها، عدد القتلى الإسرائيليين، وسمّت العمليات النضالية الفلسطينية بـ «الهجمات»، كما أفردت مساحة لكلام رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي قال إنّ «الاتهامات» باغتيال الصحافية الفلسطينية غير مبنية على «أساس صلب»، وادّعى أن «مسلحين» فلسطينيين أطلقوا النار على أبو عاقلة! من جهتها، ضمّنت شبكة «الشرق» السعودية (يملكها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان) تغطيتها لما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد بأن «الحكومة الإسرائيلية عرضت على الفلسطينيين إجراء تحقيق مشترك في وفاة الصحافية شيرين أبو عاقلة». بدورها، أفادت صحيفة «الشرق الأوسط» بأنّ أبو عاقلة استُشهدت في مخيّم جنين الذي وصفته بـ «معقل الفصائل الفلسطينية». ووضعت خبر استشهادها على قدم المساواة مع القتلى الإسرائيليين، واصفةً عمليات المقاومة الفلسطينية بـ «الهجمات».
على خطّ «فرانس 24» التي نشرت خبر استشهاد أبو عاقلة على موقعها الإلكتروني، متعاونةً مع وكالة «رويترز»، فقد نقلت رواية الاحتلال الإسرائيلي، بأن شيرين أصيبت بـ «نيران فلسطينيين»، ووضعت مزدوجين لعبارة «اغتيال»، بعدما برّرت للاحتلال إطلاقه النار على الفلسطينيين، بالقول بأنّ «الجيش الإسرائيلي أطلق النار رداً على تعرّضه لنيران كثيفة في جنين». «شبكة bbc عربي» لم تختلف تغطيتها عن «فرانس 24»، وربما زادت فقاعة، إذ أوردت بأنّ الصحافية الفلسطينية «لقيت مصرعها نتيجة إطلاق نار عشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين في مخيم جنين». رواية دحضها طبعاً زملاء شيرين الذين كانوا عند نقطة استشهادها، وأكدوا أن ما حصل يندرج ضمن «الاستهداف العمدي والمنهجي» للصحافية. كذلك الحال في الميديا الأميركية مثل «واشنطن بوست»، و«نيويورك تايمز»، وNBC. إعلام تبنّى السردية الإسرائيلية وتواطأ بالتالي مع الجناة، إذ شكّك في أنّ أبو عاقلة قد اغتيلت على يد الاحتلال الإسرائيلي. إلى جانب التغطيات الإعلامية، التي حاولت طمس جريمة الاحتلال والتعمية على ما حصل في جنين، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر استشهاد المراسلة الفلسطينية. وكان لافتاً إقدام العديد من الصحافيين والإعلاميين على نشر تغريدات اتّسمت بالدبلوماسية وبتورية الاتهام المباشر لـ«إسرائيل»، إبان نعيهم المراسلة الفلسطينية.
وسط كل ذلك، يبقى السؤال حاضراً عن أداء «الجزيرة» التي كانت وما زالت رائدة في تكريس ما يُعرف بـ «الرأي والرأي الآخر» وفتح هوائها لقادة الاحتلال الإسرائيلي. ها هو «الرأي الآخر» يغتال أحد أبرز صحافيّيها الميدانيين، وسط تكريس لسياسة الإفلات من العقاب، والدوس على المواثيق الدولية والإنسانية.