أفاق الصحافي اللبناني في شبكة «الجزيرة» حسن جمّول في العاصمة الأوكرانية كييف، حيث يغطّي أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، على عشرات الرسائل النصّية التي تقدّم له العزاء. فتّش في الرسائل ليصل إلى الاسم الذي يبحث عنه، وهنا كانت الصدمة. لقد استشهدت زميلته شيرين أبو عاقلة خلال تغطيتها الأحداث في مخيم جنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.يقول جمول لنا: «كان خبراً صادماً ومفجعاً. كعادتي، أستيقظ وأتفقّد هاتفي مباشرة فلاحظت وجود عشرات الرسائل من دول مختلفة وفيها عبارات عزاء. لم أستوعب الموقف. شعرت بالخوف. صرت أبحث عن رسالة تتضمّن اسم الشخص الذي يعزّونني به. كانت لحظات عصيبة الى أن عرفت من رسالة صديق مصري أنّ شيرين استشهدت».
يجد جمّول الذي يعمل مراسلاً ومذيعاً في الشبكة القطرية التي انطلقت عام 1996، صعوبة في إيجاد كلام يصف الصدمة التي أصابته إزاء علمه باستشهاد زميلته. يقول «لم أصدّق. شعرت بأنني أحلم. فما الذي جرى؟ كنت أشاهدها يومياً على الشاشة من كييف، وكان الملفّ الفلسطيني يزاحم الملف الأوكراني، وفقاً لطبيعة الأحداث. لم يخطر في بالي لحظة واحدة أنها ستسقط شهيدة في جنين التي اعتدت على تقديمها من هناك بعبارة، معنا شيرين أبو عاقلة من جنين من نابلس من القدس من رام الله من الضفة».
لكن هل يدفع الصحافي ثمن مواقفه الثابتة؟ يجيب الصحافي اللبناني «شيرين حملت قضيتها. مارست مهنتها بكل صدق وموضوعية. لكن ذلك لم يرُق للاحتلال. هي كانت شاهدة على كل ممارساته على مدى 24 عاماً من عملها في القناة. كانت توثّق بالصوت والصورة وتنقل مشاهد القتل والظلم والهدم التي يعانيها يومياً الشعب الفلسطيني. لذا فإن استشهادها لا يعدّ كونه عملية اغتيال، بدليل الملابسات التي رافقت الاستشهاد والتي تابعناها لحظة بلحظة عبر الشاشة».
لم يكن جمّول الوحيد الذي أصابته الصدمة إثر انتشار خبر استشهاد شيرين، فالكلّ في شبكة «الجزيرة» التي تتخذ العاصمة القطرية الدوحة مركزاً لها، في حالة حزن. يُجمع زملاء شيرين على أنها لم تكن صحافية عادية، بل تجمع في شخصيتها كل الصفات الحسنة. تواضعها يفوق التوقعات، وكذلك دقّتها ومهنيّتها كانتا ميزتين في عملها.
يفتش مدير قسم المراسلين في «الجزيرة» أمان الله غنيم، عن العبارات لوصف الصحافية الراحلة. يقول لنا «كانت صحافية مخضرمة. مهنيّتها عالية. إنسانة رائعة. حسّ التواضع لديها يفوق الكلام. كنت أطلب منها بعض التعديلات على عملها، فتتلقّف الملاحظة برحابة صدر». يستجمع غنيم بعض ذكرياته مع شيرين، «لقد بدأت العمل مع شيرين قبل نحو 6 سنوات عن قرب. لقد تقرّبنا بعضنا من بعض. كانت في الدوحة العام الماضي، حيث قضت إجازة أسبوعين تقريباً فتعرّفنا إليها عن قرب. تتعرفين إليها مرة فتتعلّقين بها، إنها قريبة من القلب».
لكن كيف كان يوم العمل الأخير للراحلة قبل استشهادها؟. يروي غنيم «كانت شيرين وزميلتها جيفارا البديري تتقاسمان التغطيات في مخيم جنين. أمس، كان يوماً عادياً، استفاقت شيرين قرابة الساعة السادسة والنصف صباحاً والتحقت بفريق العمل. لم يكن هناك اقتحام للمخيم، ولا حتى ضربة حجر. لم يكن هناك تصعيد من الجيش الإسرائيلي تجاه المخيم. وصلتنا منها رسالة على البريد الإلكتروني معلنة عن مهامها لليوم ومشت بطريقها».
يختتم غنيم كلامه بالتأكيد أن شيرين «كان لديها دافع قويّ لنقل أخبار بلدها وأهلها. لو نظرنا الى فيديوات شيرين في السنوات العشرين الماضية من عملها في «الجزيرة»، سنرى أنها قدمت مواد إعلامية من دون أي خطأ».
من جانبه، يقول مدير تحرير قناة «الجزيرة» محمد معوض إنّ «الجزيرة» كانت بمثابة عائلة شيرين. فقد توفي والداها قبل سنوات، وهي لم تتزوج. كانت «صاحبة حضور قوي على الشاشة. من الصحافيين الأوائل الذين بدأوا معنا. من الصحافيين الذين لا ينتظرون تكليفاً بتغطية الأحداث. أمس تلقّت غرفة الأخبار خبر استشهادها بصدمة. وصلنا منها بريد إلكتروني قبل 20 ساعة من استشهادها. أغلق هاتفها، وعرفنا نبأ رحيلها من خلال صفحات السوشال ميديا». يصف معوض الوضع في غرفة الأخبار «لا نعتقد أننا سنستفيق من صدمة استشهادها. شيرين اغتيلت واستهدفت رغم أنها ترتدي الخوذة الصحافية. الرصاصة تمركزت أسفل أذنها مباشرة. قتلت بدم بارد. شيرين لا تعوّض أبداً».
بعد انتشار خبر استشهاد شيرين، ضجّت صفحات السوشال ميديا بأخبارها وصورها. وانتشرت صورة لها تشبّه عملية اغتيالها بصورة مقتل الطفل الشهيد محمد درّة الذي قتله الجيش الإسرائيلي بدماء باردة عام 2000. كما راح البعض يعترف بمدى تأثر الجيل الجديد من الصحافيين بصوت وأداء الشهيدة التي كانت قدوة في التغطيات الإخبارية من فلسطين. فقد تحوّلت الى حديث المعلّقين على الصفحات الافتراضية، وراح البعض يكشف أنها كانت سبباً بدخوله عالم الصحافة. أعدنا اكتشاف شيرين مجدداً، المناضلة والصحافية والشهيدة. كانت صوت الوجع الفلسطيني، في زمن يخاف فيه الصحافي العربي والأجنبي تغطية جرائم الاحتلال. تخرج امرأة من مخيم جنين، لتقول بأن الشهيدة كانت تساعدها في التفتيش عن أولادها خلال الاعتداءات الإسرائيلية على أهل المخيم. ثم ينعاها أحدهم قائلاً «تنضمّ إلينا مراسلتنا من فلسطين المحتلة، شيرين أبو عاقلة اخبرينا عمّا ترينه من موقع الحدث». كذلك استعاد البعض الفيديو الشهير لها، وهي تصف عملها الصحافي المحفوف بالمخاطر. بصوت شجن، تقول الشهيدة «لن أنسى أبداً حجم الدمار ولا الشعور بأنّ الموت كان أحياناً على مسافة قريبة. لم نكن نرى بيوتنا. كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز العسكرية والطرق الوعرة. كنا نبيت في مستشفيات أو عند أناس لا نعرفهم. ورغم الخطر، كنا نصرّ على مواصلة العمل».
لكن شهادة شيرين لم تمرّ من دون انتقاد أداء «الجزيرة» التي تستضيف محلّلين وسياسيين إسرائيليين وتحاورهم انطلاقاً من «الرأي والرأي الآخر»!