بدأت الفكرة بترجمة شذرات تتعلّق بمفردة الحب على صفحته الشخصية على موقع الفايسبوك. وبعد ثلاثة أشهر من المتابعة اليومية، وجد شاكر لعيبي نفسه إزاء مدوّنة نصيّة ضخمة، أطلق عليها اسم «شذرات الذهب في الحب والمُحِب»، ثم صدرت أخيراً في كتاب مستقل بعنوان «أنطولوجيا الحب» (دار طوى).
يوضح الشاعر العراقي في مقدمته الفروق في مصطلح الحب بين الفرنسية والعربية، ففي الأولى تتنوّع دلالات المفردة إلى تشكيلة واسعة من المشاعر مما يصعب تحديدها في إطار واحد، فيما سعى العرب إلى تعريفات متعددة للحب مثل «غليان القلب وثوراته عند لقاء المحبوب»، كما أورد ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة» درجات الحب وطبقاته وعلاماته، وأسهمت الصوفية لاحقاً في تأويل معاني الحب، فضلاً عن القراءات الجنسانية للحب في مصادر أخرى. تبدو هذه المقارنات اللغوية ضرورية لجهة مشكلات الترجمة من لغة إلى أخرى، في إصابة المعنى في سياقاته الثقافية الأخرى، كالإشكال الذي يواجهنا في تفسير معنى الغواية، أو الإغراء، ما يؤدي إلى التباسات جذرية في تعريب مفردات موازية قد تحمل في اللغة الأصلية بعداً دينياً. والإشكال نفسه يتكرّر حيال مفردات مثل «الفتنة»، و«الشغف»، و«الهوس»، و«الفحش»، في مقابل «فانتازم»، و«الإيروس». يقول شاكر لعيبي: «هدفي من هذه الشذرات تقديم الجهة الأخرى من القلب: الحب، المحبة، اللذة الروحية والحسيّة مثلما ظهرت في الثقافة الأوروبية خاصةً، غير مستبعد شذرات أساسية من ثقافتنا العربية الكلاسيكية».

تنطوي بعض الشذرات على صراع صريح بين الذكوري والنسوي
على هذا المنوال، تستدعي هذه الأنطولوجيا مئات الشذرات المكثّفة في الحب، شعراً ونثراً. وتالياً، بإمكان المتلقي أن يقوم بنزهة شخصية، وفقاً لذائقته، برغم أن المترجم وضع مخططاً مضمراً للدخول إلى هذا الفضاء المفتوح والرحب، وكأنه ابن حزم آخر، من الضفة المقابلة، نظراً إلى تعدد مرجعياته واستشهاداته في نسج خيوط هذه الجدارية، وذلك بتحويل عبارة ما، في نص سردي أو شعري إلى متن مكتفٍ بنفسه، وإذا بالحب مروحة واسعة من المترادفات كالعاطفة والصداقة والإغواء والمشاعر.
يذكر صاحب «الشرق المؤنث» أن استدراج معجم الحب أنطولوجياً، أتى من الموقع المضاد للحرب والكراهية والعنف، وذلك لتأجيج الجمال في مواجهة القتل، فاللحظة الراهنة أطاحت كل ما هو حميمي في العالم. انتصرت البغضاء على ما عداها، وأحرقت خرائط الطمأنينة، وهو حين يفتح صندوق الحب، إنما يُفرج عن كنوز البشرية في عناقها المفتوح على شهوة الحياة والألفة والصداقة. هكذا يجتمع شعراء وروائيون ومفكرون حول مائدة واحدة، من أزمنة وجغرافيات مختلفة ليكتبوا الحب بوصفه المدوّنة الأكثر ثراءً في تاريخ العالم، مهما دمّرت الحروب النفوس.
شذرات متوتّرة مثل ضربة هايكو، تشكّل مجتمعةً سردية متكاملة في تناوب الحسّي والروحي، الحنان والقسوة، الشعر والفلسفة، بتنويعات إيقاعية، تراوح بين تطلعات الجسد ورغباته، وقدسية الحب في سموه الأعلى. هذه الكيمياء من خلائط الطهرانية والإيروتيكية، بإمكاننا مزجها على نحو آخر، بسرديات لانهائية، وفقاً لتعدد القراءات، وطريقة العبور من صوت إلى آخر لترميم عطب الأرواح والأجساد المشتعلة بالأشواق والشهوات والفناء في الآخر، لكن اللافت هنا، أن معظم الاستشهادات ذكورية، كأن من يصنع الحرب يصنع الحب أيضاً، وإن تفاوتت النصوص في قيمتها الفكرية، ذلك أن بعض هذه الشذرات تنطوي على خفّة في مقاصدها الجمالية، وعلى صراع صريح بين الذكوري والنسوي في توصيف معجم الأشواق وما يحتويه من علامات الشك والغيرة والخيانة والهجران والملل. تقول فيكتوريا إبريل: «العشاق الرائعون شكّلتهم النساء. يجب تعليم الرجال كل شيء، ومن ثم تركهم يعتقدون خلاف ذلك»، فيما تقول فرانسواز ساغان متهكمةً: «رجل قوي؟ هل تتحدثون عن الجهاز العضلي؟». وفي باب الغواية، يقول غروشو ماركس: «غواية امرأة جميلة يمكن أن تدفعك إلى الضياع، هذا إذا كنت محظوظاً». ويطيح هانز- غورغن دوب قيم أفلاطون قائلاً: «الحب هو تناغم روحين وتواصل بَشَرَتي جسدين»، و«الجنسانية هي تنويع على أشغال يدوية»، وفقاً لما يقوله ماريو بولدوك. ويبيّن ألفونس ألياس الفروق بين الجنسين بقوله: «السيقان تسمح للرجال بالمشي، وللنساء بشقّ طريقهنّ». ويتوغل ميلان كونديرا في أرض الحواس على نحوٍ صريح «الجنس ليس الحب، إنه ليس سوى أراضٍ استولى الحب عليها». أما مارسيل بروست، فيؤكد أن «الحب أمر لا يُشفى منه». ويختزل أندريه بروتون القبلة بأنها «هذيان، انجراف».
على هذا المنوال من التجوّال في قاموس الحب، بإمكان المرء أن يشتل حديقته الخاصة بمأثورات الآخرين، وبما يتوافق مع مفهومه للحب، أو كما يقول شارل شانشول: «ذكريات الحب هي الراتب التقاعدي للقلب».