ننشر هنا مقتطفات من كلمة «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان» التي ألقتها الناشطة عفيفة كركي في «الجامعة اللبنانية الأميركية LAU» في مناسبة «أسبوع مقاومة الاستعمار ويوم الأرض». تناولت الورقة دور المقاطعة الأكاديمية والثقافية في الدفاع عن حرية التعبير (ودعم التحرير) ودور التطبيع في تقويض هذه الحرية:البداية مع «دور المقاطعة الأكاديمية والثقافية في الدفاع عن حرية التعبير» الذي اخترته للردّ على من اعتبر مرةً أنّ مقاطعة إسرائيل وسيلة قمعية، بينما يروّج لها اليوم لأنها تتناسب مع أهدافه، علماً بأن ميثاق الأمم المتحدة ينص على حرية الفرد في الدفاع عن حقوقه (المادة 29/2)، ونذكر هنا كيف دعمت الدول الغربية والأمم المتحدة خلال 30 عاماً (ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي)، كل فعاليات المقاطعة الثقافية والفنية والرياضية والأكاديمية لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي حكم من عام 1948 حتى عام 1990.
قبل الأحداث الأخيرة، كان كثيرون في العالم العربي والغربي، يصرون على أن السياسة لا علاقة لها بالثقافة والرياضة. لكن هذه المقولة كانت تتغاضى عن استخدام إسرائيل للثقافة والفن في السياسة ولتلميع جرائمها. ولهذا أنشأت عام 2005 مكتب Brand Israel الذي يدعم مالياً كل الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية المشاركة في معارض ومؤتمرات ومباريات ومهرجانات خارجية، شرط الترويج لأهداف وسياسات الاحتلال. أضف إلى ذلك أنّ جميع مؤسساتها الأكاديمية متورّطة في دعم آلة الحرب من خلال المساهمة في تطوير الأسلحة مثلاً أو استخدام الأسرى في الاختبارات الطبية...


وإذا كان هناك من يقمع حرية التعبير، فهو الاحتلال من خلال تدمير المؤسسات الثقافية الفلسطينية والحدّ من حركة الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى المعاهد والجامعات أو السفر للمشاركة في فعاليات عالمية، إضافة إلى اعتقال الطلاب والأكاديميين. وأخيراً، استحدثت «إسرائيل» قراراً يعطي الجيش حقّ قبول أو رفض استقبال الطلاب والأكاديميين الأجانب في الجامعات الفلسطينية.
بدأت الحركة العالمية للتضامن مع الفلسطينيين وللدفاع عن حقوقهم تتبلور عام 2005 من خلال «حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها» المعروفة بـ BDS، إذ أسهمت في جعل العالم يعي أهمية المثقف في العمل على محاربة الظلم الذي يُلحقه الاحتلال بالشعب الفلسطيني.
هذه المقاطعة الأكاديمية والثقافية العالمية التي تنامت إلى حدّ إشعار «إسرائيل» بالخطر، فأنشأت عام 2015 «مكتب مكافحة المقاطعة في وزارة الشؤون الاستراتيجية»، تؤكد على دور الثقافة والمقاطعة في الدفاع عن الحريات وفي مساندة التحرير.
سأعطي بعض الأمثلة عن هذا التضامن: الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ، وعشرات الكتّاب وآخرهم Sally Rooney، ومئات الفنانين أمثال براين اينو، روجر ووترز، كين لوتش وغيرهم ممن وقّعوا على عريضة تضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني من خلال التزامهم بالمقاطعة الثقافية أو ممن عبّروا عن تضامنهم عبر وسائل التواصل آخرهم Emma Watson: Solidarity is a verb. ونذكر أيضاً الفنانين الذين انسحبوا من «مهرجان سيدني» في بداية هذا العام احتجاجاً على رعاية السفارة الإسرائيلية له. وهناك مئات الأكاديميين من جامعات إيطاليا وبريطانيا وبلجيكا والبرازيل وجنوب أفريقيا وإيرلندا الذين وقّعوا على عريضة لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، آخرهم أكاديميو جامعة CUNY الأميركية. أضف إلى ذلك عشرات المعاهد الأكاديمية الأميركية والبريطانية التي تضم آلاف الأكاديميين والعاملين في الشأن الثقافي، حيث صوّت أعضاؤها لصالح تبني نداء مقاطعة «إسرائيل»، ومئات مجالس الطلاب وكان آخرها McGill University students-Canada.
اشتداد وتيرة هذا التضامن خلال الاعتداءات الإسرائيلية على غزة والشيخ جراح والنقب وغيرها... هو برهان على فشل Brand Israel في تلميع صورة الاحتلال، ما دفع الكيان إلى تبني استراتيجية جديدة لمحاربة المقاطعة من خلال حث الحكومات على تبني قوانين تجرّم المناضلين من أجل حقوق فلسطين وإقرار قانون IHRA- International Holocaust Remembrance Alliance الذي يساوي معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، ما يقوّض الحرية الفردية في انتقاد سياسات الحكومات الإسرائيلية، أو من خلال اللوبيات الصهيونية داخل المؤسسات والجامعات التي تعمل على الدفع بإقالة كل من يتضامن مع الفلسطينيين، آخرهم مدير Whitworth Gallery في جامعة مانشستر، الحدث الذي حثّ العاملين في الجامعة على التوقيع على رسالة تضامن معه.
لكنّ هذه المحاولات السياسية لإسكات كل تضامن مع الشعب الفلسطيني لا تنجح دوماً، بفضل جهود مناضلين من أجل حقوق الإنسان. ففي ألمانيا مثلاً، وقّع عاملون في الشأن الثقافي على عريضة تطالب البرلمان الألماني بمراجعة قانون تجريم المناضلين في حركة المقاطعة BDS الذي أُقر عام 2019. وفي الولايات المتحدة، يلجأ المناضلون إلى المحاكم لإسقاط القرارات التي تقمع فعاليات المقاطعة لأنها تتناقض مع الدستور الأميركي الذي يكفل حرية التعبير.
وسط هذا التضامن العالمي، نرى ضبابية في تضامن الأكاديميين والفنانين العرب مع القضية الفلسطينية كوسيلة للدفاع عن الحريات ولدعم التحرير. ففي الوقت الذي يرفض فيه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس«جائزة الشيخ زايد للكتاب» وقيمتها  200 ألف دولار، معلّلاً بأن لا معنى للثقافة التي لا تُوظف في خدمة الشعوب، يشارك أكاديميون ومثقفون عرب في مؤتمرات تقام على أرض عربية بمشاركة إسرائيليين. علماً بأن من أهداف هذه الفعاليات التي تقيمها الدول العربية المطبّعة التي تجمع بين عرب وإسرائيليين، توريط الشعوب في التطبيع، وهذا يتجلى من خلال إقحام إسرائيليين في معارض ومهرجانات ومؤتمرات تقام على أرضها (Aeedc Dubai مثلاً)... وبعض المثقفين العرب يختبئون خلف سرديات الأنظمة لتبرير مشاركاتهم. وهنا أعطي بعض الأمثلة: أحد الشعراء العرب وأحد الفنانين «الداعمين للقضية الفلسطينية» اللذان كانا مشاركين في فعّاليتين تطبيعيتين («مهرجان طيران الإمارات للآداب» ومهرجان Arabofolies في «معهد العالم العربي» في باريس) برّرا وجودهما، بأنهما لن يكونا مع الإسرائيلي/ة في التوقيت نفسه، والإسرائيلي/ة المشارك/ة هو/هي «تقدمي/ة» (أحدهم انسحب بعد أسابيع من الأخذ والرد)... هذه الحجج تميّع القضية، فالمشاركة في فعاليات تطبيعية على أرض عربية هي اعتراف ضمني بشرعية الكيان وأكذوبة التقدمية الإسرائيلية، وهي تخدم الصورة الديموقراطية للكيان. شاعر آخر معروف بأنه مناهض للصهيونية، كان مشاركاً في إحدى فعاليات Expo Dubai مع إسرائيليين، قال إننا كحركات مقاطعة نركز على جرائم إسرائيل ونتناسى جرائم الأنظمة العربية. لكن هذا الشاعر نسي أن إسرائيل دولة استعمارية، ومقاطعة الدول العربية هي مقاطعة للشعوب الأصلية، بينما مقاطعة «إسرائيل» هي مقاطعة للمستوطنين. ثم إن من حق أيّ كان، أن يقاطع أي فعالية تابعة لأي نظام مجرم. الفنانون الذين رفضوا مقاطعة فعاليات Expo Dubai مثلاً، يسهمون في تطبيع الوعي العربي على التطبيع.
وهنا أشير إلى أن الصورة ليست قاتمة تماماً. فهناك من رفض المشاركة أو انسحب من هذه الفعاليات التطبيعية، بمجرد أن أرسلنا إليه الأسباب وراء دعوتنا إلى مقاطعتها أو عندما عرف بالنداء إلى مقاطعتها (كالشاعر جمال القصاص والكوميدي علاء أبو دياب... ومنهم من يرفض الإعلان عن اسمه).
استراتيجية جديدة لمحاربة المقاطعة، تمثّلت في قانون يساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية


وقد صارت غالبية الحجج المستخدمة لتبرير التطبيع مفضوحة، وكذلك الوسائل التي يستخدمها العاملون على استحداث أفخاخ تطبيعية، إذ يختارون في أغلب الأحيان المثقفين المناهضين للصهيونية لإقحامهم في التطبيع من خلال الحوافز المالية أو المعنوية، ما قد يؤثر على الوعي المجتمعي.
أما في الغرب، فيحارب كل من يتضامن مع فلسطين ويُتهم بمعاداة السامية (فصل خمسة صحافيين عرب أخيراً من شبكة Welle Deutsche أو فصل الأكاديمي كورنيل ويست من جامعة Harvard أو محاولة فصل الأكاديمية شاهد أبو سلامة من Scheffield Hallam University في محاولة لتدجين المثقفين العرب.
أما الفعاليات التطبيعية المقامة في الغرب، فتعمل على دسّ السم في العسل كفاعلية «يهود الشرق» في «معهد العالم العربي» في باريس حيث دمج السرد التاريخي الذي قد يفيد القضية الفلسطينية بالتعاون مع «متحف إسرائيل»، إضافة إلى تعيين مديره دوني شارلي الذي صرّح أنّ هذا الحدث هو من بواكير «اتفاق أبراهام» كأحد أعضاء اللجنة العلمية القائمة على المعرض، وإلى استخدام تعابير تخدم السردية الإسرائيلية مثل «مغادرة الفلسطينيين أرضهم وطرد اليهود من البلاد العربية».
المقاطعة إذاً هي وسيلة مقاومة للدفاع عن حرية التعبير والحق في التحرير، إزاء محاولات كتم الصوت الفلسطيني. والمقاطعة على اختلاف أشكالها، هي ثقافة ننقلها إلى كل من نلتقي بهم وأسلوب حياة يعبّر في كل لحظة عن رفضنا للظلم.