في مطلع مقالتها «النظريّة كممارسةٍ تحرّريةٍ»، تكشف المنظّرة والناشطة النسويّة بيل هوكس (25 أيلول/ سبتمبر 1952 ــــ 15 كانون الأول/ ديسمبر 2021) التي رحلت قبل قبل أشهر، عن تجربتها الشخصيّة الدفّاقة بالألم منذ نعومة أظفارها. طارَدَتها باكراً أسئلة عن سلطة والدها ووالدتها، خرّبت بدورها مسار تطبيع الممارسات الاجتماعيّة الذكوريّة في مجتمعها المصغّر. لطالما مارسَ والدها سلطة «التأديب» على جسدها الغضّ، فيما نزعتْ والدتها التي تحيا وسط أبويّةٍ لا تعيها، إلى تصوير ابنتها المشكّكة بما حولها شيطاناً أو شبحاً يخيّم على المنزل، ساعياً إلى تهديم ما جرى تذويته طويلاً. ولمّا أضحى حيّز البيت شاغراً من الملاذ الآمن الذي جاهدتْ هوكس للقبض عليه في سنٍّ باكرة، دقّت جدران النظريّة بحثاً عن الأمان الذي لطالما تعطّل هناك. انتمت هوكس إلى عالم التنظير كموقعٍ ينفتح على الجروح والآلام التي تقاسيها، مفتّشةً عن اللغة التي تسمّيها وتُجاريها، بالقدر ذاته المُنفتح على التشافي وبرء الجروح، ومحاولة خِياطتها. نشأت الكاتبة النسويّة في ولايات الجنوب الأميركيّة في أسرةٍ سوداء من الطبقة العاملة، أبويّة السلطة، لطالما قاستْ تحيّزاً عنيفاً على أسس عرقيّة وطبقية وجندريّة. كما عاشتْ طفولةً ومراهقةً كئيبتَيْن ساورتها خلالهما أفكارٌ انتحاريّةٌ نتيجة فقدانها المعنى. ولّدَ العنف المتعدّد الطبقات غضباً حرّاقاً دفعها إلى مقاومة التنشئة الاجتماعية المبنية على أساس التحيّز الجنسيّ، والرغبة في تعميم الموقف النسوي بلغةٍ مبسّطةٍ تدفع الضحايا إلى الانتماء إليه بغرض مواجهة آلامهم، لا التصالح معها وتشكيل مساحةٍ من البوح الليبرالي حولها.

الوعي النقدي لعلاقات القوى
قبل أن تكشف لنا هوكس عن ميدانها النظري الممارساتيّ، تُحمِّلنا وعيها النقدي بخصوص علاقات القوى والسلطة التي أفرزت شكلاً معيناً من النظرية النسويّة هيمنَ بدوره على المخيال العام. تحدّت النسويّات الملوّنات والسوداوات البناءَ الأنثويّ المتجانس الذي نحتته النظرية الأكاديميّة البيضاء بغاية ترسيخ أحاديّة الذات الأنثويّة المقهورة في مواجهة نسخةٍ موحّدةٍ من «الآخر» الذكر القاهر، والتعتيم على الرغبة في الحفاظ على جملة الامتيازات العرقيّة والطبقيّة التي يحظَيْن بها. بكلماتٍ أخرى، تخطّت النسويات النقديّات أُحاديةَ العامل الجندري كعاملٍ حاسمٍ منفردٍ في صياغة معاناة النساء وجروحهنّ من وراء النظام الأبوي، ليحفرن في طبقاتٍ كثّةٍ ومتداخلةٍ من علاقات سلطةٍ أكثر تعقيداً؛ مثل عوامل العرق والطبقة والميول الجنسيّة والدين.
ففي كتابها «العرق والجندر وسياسات الثقافة»، تبيّن هوكس أنّ كشف وهم الذات النسائيّة كهويةٍ ثابتةٍ مظلومةٍ تسيطرُ عليها ذاتيّة الذكور، لا يعني إنكارَ الإقرار بالهيمنة الذكوريّة على النساء في مجموعةٍ متنوعةٍ من المواقف، بل إقراراً بإمكانات ممارسة النساء للسلطة على نساء ورجال وأطفال آخرين، وبالتالي إزاحة حدود الاختلاف الثقافي الصارم المفترض بين الرجال والنساء. مثّل استدخال النسويات النقديات العواملَ الطبقية والعرقية والقوميّة في النظرية النسويّة الجديدة التي اقترحْنَها، تدخلاً نقديّاً قشَّرَ العنف الإبستيميّ الكامن في النظرية المهيمنة، القائم بدوره ليس على مجاراة مطمح تحرّر جميع النساء، إنّما متطلبات ومصالح فئةٍ محدّدةٍ من النساء تحمل موقع الامتياز العرقي الأبيض والطبقيّ الرأسماليّ من النظام السائد. استحالتْ النظرية النسويّة البيضاء موطئاً لإيديولوجيا القهر المشترك التي حوّلتْ أشكالاً خاصةً من الاضطهاد الأبويّ التي تخضع لها البيضاوات والمتحدّرات من الطبقات الوسطى والعليا، إلى معاناةٍ معمّمةٍ على بقية النساء المختلفات اللواتي يقاسين تجاربَ أخرى شديدة التركيب من العنف. أفضتْ تلك الإيديولوجيا إلى تضليل الواقع وحجب العنفَيْن العرقيّ والطبقيّ غير المنفصلَيْن عن عنف البطريركيّة حِيالَ النساء المهمّشات، ما أنذرَ بمكتسباتٍ خاصةٍ للنساء المهيمنات الليبراليّات والإصلاحيّات؛ كمساواتهنّ في الأجور مع الرجال وتبنّيهنّ خطابات التمكين، في مقابل تكريس هيكليّة النظام السائد الذي تمثّل النساء السوداوات أكبر ضحاياه. عوضاً عن ذلك، تقترح هوكس أنّ فهم الاختلاف بين النساء ومواقعهنّ المتعدّدة من المنظومة السائدة، يمثّل نقطةَ انطلاقٍ معرفيّةً للتأسيس لأخلاقياتٍ نسويةٍّ، منحازة إلى اعتبار الاختلاف مُعادِلاً للخصوصيّة. يسهم الانطلاق من مبدأ الاختلاف، في التدليل على وجوب خوض معاركَ نسويّةٍ ضدّ فئاتٍ أنثويّةٍ تتكسّب من وراء قمع السوداوات، ليهدم الاختلاف ثنائيّة الذكر المضطهِد والأنثى المضطهَدة، ويبني عوضاً عنها عالماً متعدّداً من أولويات النساء ومصالحهنّ ومعاركهنّ. في الوقت الذي كانت تطمح فيه المرأة البيضاء إلى الانخراط «العادل» في أسواق العمل، والحظي بمواقع السلطة والمكانة الاجتماعيّة المثلى، تماشياً مع خطابات التمكين والقيادة النسائيّة ذات الجوهر الليبراليّ، كانت تُطحن يد المرأة السوداء كأجيرةٍ للعمل في منازل البيض ومصانعهم، بغية توفير لقمة العيش لأطفالها.
فما كان يُعتبر حالةً ملولةً وذكوريّةً من البقاء داخل أسوار المنزل لدى البيضاوات المقتدرات، لتبرير الرغبة في «ترف» عملهنّ خارجه، شكّل لدى نظيراتهنّ السوداوات حكماً بالموت بالجوع على أطفالهنّ، ليتبدّى العمل، بذلك، فضاءً متبايناً ما بين الحاجة الليبراليّة إلى إثبات الذات، وبين قراءته عذاباً قسريّاً يجعل من فكرة المكوث في المنزل محضَ ترفٍ لا تملكه السوداوات في الأساس. يُعزى هذا إلى كون السوداوات لطالما كنّ الضحايا الأكبر للعنصريّة والاستغلال الجنسيّ، لافتقارهنّ إلى آخريّةٍ يمارسْنهَا على غيرهنّ، في حين تُمارَس عليهنّ الآخريّةُ من قِبل النساء البيض من جهة العرق والطبقة، ومن قِبل الرجال السود من جهة التحيّز على أساس الجنس.

استبعاد السوداوات وإسكاتهنّ أكاديمياً
دفعتْ تلك الممارسات النسويّة النقديّة، الوسطَ الأكاديميّ الأبيض إلى نزع الشرعيّة عن نظريات وأعمال النساء الملوّنات والسوداوات، عبْر إنتاجه حزمةً من المعايير «النقديّة» التي تغربل النظريّ ممّا هو دونه، ليصنّف تلك الأعمال خارجةً عن العالم النظريّ أو غير منسجمةٍ معه بالقدر الكافي. تجادل هوكس بأنّ ذاك الوسط يحصر النظريّة في استخدامه الذرائعيّ/ الأداتيّ لها، بغية الحفاظ على التسلسل الهرميّ للفكر الذي يديم سياسات الهيمنة، عبْر فرز النظريات ما بين متفوّقةٍ، ومتدنّيةٍ دون المستوى، وجديرةٍ بالاهتمام إلى حدٍّ ما. ترى هوكس إنتاجَ ذاك التسلسل الهرميّ الطبقيّ إحدى أهم الغايات المترجمة لتداول النظريّة في المواقع الأكاديميّة المهيمنة، ليتبدّى رِفعة شيءٍ ما إلى مصاف النظريّة متمثّلاً في التجريد الهائل وعسر قراءتها وهضمها. إنّه من الباعث على التندّر أن تستحيل هذه النظريات الممثّلَ النموذجيّ للتفكير النقديّ في الحقل النسوي؛ ذلك أنّها، من جهةٍ، تكرّس مسافاتٍ جمّة بينها وبين العالم القابع خارجها الذي يعتبر تلك النظريات غيرَ تقدميّةٍ سياسياً، ونابعةً من ممارساتٍ نرجسيّةٍ متطلّعةٍ إلى ترسيخ النخبويّة الطبقيّة. من جهةٍ أخرى، ترى هوكس هذه النظريات محضَ اعتداءٍ على النفسيّات الهشّة للإناث اللواتي يحاولن جاهداتٍ البحث عن سبل التعافي من جروح النظام الأبويّ وندوبه بأبعادها الطبقيّة والعرقيّة، عبْر انفصالها تماماً عن واقعهنّ المعيش المركّب مقابل مواكبتها عنفَ حيوات نساءٍ محدّداتٍ، وإسقاطه على جميع النساء، كما بيّنا قبلاً. مع ذلك، تسترشد هوكس بالكاتبة النسوية كاتي كينغ التي لطالما أقرّت بانكشاف النظرية الواحدة على مدلولاتٍ واستخداماتٍ مختلفةٍ في مواقع متعدّدة. تجادل هوكس بأنّه على الرغم من مثول النظرية النسويّة البيضاء كأداةٍ للسيطرة والرقابة، غير أنّه يمكن الاستلهام من بعض أفكارها ورؤاها المهمة، وإعادة أقلمتها مع غاياتٍ مختلفةٍ تقدميّةٍ تؤدّي وظيفة الشفاء والتحرّر.

نظريّة للجميع
تصحبنا هوكس إلى عالمَ النقد الذاتيّ لنفسها. تعتبر أنّ سياسةَ الصمت التي مارسَتْها في الماضي وقتما كان يُنبذ المثقفون ويجري إخضاع النظريّة في الأوساط السوداء، محمولة على التواطؤ الذي يوهم كثيرين بإمكانية الانخراط في تحريرٍ ثوري للسود أو إحقاق نضالٍ نسويٍّ دون التظلّل بمظلّةٍ نظريّةٍ مُمَارِسَة. ترى الناشطة النسويّة أنّ ثمّة تقاطعاً ملحوظاً ما بين نزعة الرقابة ومناهضة عالم الفكر والنظرية Anti-intellectualism وسط المجتمعات السوداء، وبين الإسكات التاريخيّ المهيمن حِيالَ فرز نظريات النساء السوداوات والملوّنات بكونها متعذّرةً عن الترقّي والرِّفعة إلى العالم النظريّ. يدلّل هذا، بحسبها، على أنّ السواد ذو تجربةٍ معقّدةٍ متعدّدة الأوجه، ليتحيّن عديدون فرصةَ إقحامه في سياساتٍ رجعيّةٍ مناهضةٍ للعدالة. فمن ناحيةٍ، امتدّت مخاطر النظرية النسويّة المهيمنة إلى جرّ النساء السوداوات والملوّنات إلى التواطؤ مع من يفترض بهنّ مخالفتهنّ؛ إذ ترسّب لديهنّ مُعتَقدٌ بأنّ النظريّة ليست بمُعادِلةٍ للممارسة الاجتماعيّة، ما أنتج ترويجاً للهرميّة القمعيّة المُعتادة داخل الدوائر النسويّة حيث يحتلّ الفعل الماديّ مكانةً متفوّقةً على النظرية، أكانتْ مدوّنةً أو شفويّة، معزّزةً بذلك الانقسام المغلوط بين النظريّة والممارسة. من ناحيةٍ أخرى، تعتبر هوكس أنّه بينما يجري الاستحواذ على نظريات السواد، والتجربة السوداء إجمالاً، من قِبل النخبة بغرض تقويض النضال الجماعيّ لأصحابها، يتبنّى سودٌ عديدون موقفاً عدمياً إزاء النظرية، لاعتبارها ذات قيمةٍ صفريّةٍ إذا ما قُورنت بالممارسة التي يعتبرونها عالماً منفصلاً عنها. خلّف هذا إدامةً للواقع التَّعِس الراهن، وتخريباً لقوّة التعليم التحرّريّ للوعي النقدي، وبالتالي إيهام ترسيم حدٍّ فاصلٍ بين النظريّة والممارسة. في «كتابها النسويّة للجميع: سياسةٌ شغوفة»، ترى هوكس أنّ خشية الرجال من فقدان الامتيازات الممنوحة لهم من قِبل النظام الأبوي، تجبرهم على ممارسة العنف تجاه النساء، وإنْ كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم بعنفهم الممجوج. ولّدَ هذا حاجةً ماسّةً لنظريّةٍ نسويّةٍ تكسر الحدود التقليديّة للثنائيّة الصارمة من مجانسة الذكور مقابل مجانسة الإناث، داعيةً إلى توسيع شبكة النضال النسويّ الجماعيّ، ليضمّ في طيّاته نضالاً ضدّ الأبويّة متشابكاً بقوّة مع النضال ضدّ النظم الرأسماليّة والعنصريّة الاستعماريّة. لا يمكن أن تقوم النسويّة الحقّة على مبدأ معاداة الذكور، إنّما تطمح إلى إنهاء التحيّزات على أساس الجنس، والتي قد تنخرط في ممارستها بعضُ النساء ضدّ أخريات. ونظراً إلى وجود حالاتٍ عديدةٍ يشغل فيها الرجال السود والمستعمَرون موقعاً مزدوجاً من الاضطهاد، ويلعب «تدنّيهم» عرقيّاً وطبقياً دوراً مركزياً في تفريغ العنف الناتج عنه باتجاه المرأة السوداء والمستعمَرة، يصبح انخراطهم في النضال الجمعيّ ضدّ منظومات العنف القائمة، تحت عنوان النسويّة، بمثابة إيذانٍ بالتحلّل من عوامل الأبويّة، وفاعليّة النسويّة الجذريّة في تحويل مواقع المضطهدَين بشكلٍ يتجاوز عالم النساء. تشاركنا هوكس أثرَ تنظيراتها حول السياسة الجماعيّة النسويّة عند بعض الرجال السود المسلوبي الحريّة في سجون العنصريّة الأميركيّة، ليدوّنوا رغبتهم الجامحة في التحرّر من أغلال التمييز والتحيّز على أساس الجنس، معبّرين عن توظيفهم لنظريات هوكس في فهم الآثار المترتّبة على النظام الأبوي كقوّةٍ تشكّل هوياتهم وأفكارهم عن الرجولة، وبالتالي إحقاق تحويلٍ للوعي المجتمعيّ بشكلٍ يتخطّى النساء نحو بقيّة الفئات الأخرى.
يتلقّى كثيرون المعرفة من منصّاتٍ أبويّةٍ تُحوّر النسويّة إلى مجرّد اجتماع نساء حاقداتٍ وغاضباتٍ على الرجال يسعين إلى أن يصبحن محلّهم


في المقابل، تعزو هوكس جزءاً من معاداة النسويّة إلى الخوف المبني على الجهل بها، ليتلقّى كثيرون المعرفة حولها من منصّاتٍ أبويّةٍ تُحوّر النسويّة إلى مجرّد اجتماع نساء حاقداتٍ وغاضباتٍ على الرجال يسعين إلى أن يصبحن محلّهم. توجّه الكاتبة أسهم نقدها إلى ما تسمّيها النسويّة المبنيّة على نمط العيش؛ أي تلك التي تعمد إلى توليد توجّهاتٍ تسليعيّةٍ للنسويّة شبيهةٍ بتلك التسليعيّة للتجربة السوداء داخل النظام الرأسماليّ الأبويّ الأبيض. ترى هوكس أنّ نمط العيش النسوي أفرز فكرة أنّ لكلّ امرأةٍ نسختَها الخاصّة من النسويّة، ليسود الاعتقاد بأنّ المرأة، وإنْ كانت تتبنّى سياسةً مُحافِظَةً أو ليبراليّةً، بإمكانها أقلمة النسويّة مع نمط العيش الذي تمتثل له، دونما الدعوة إلى تغيير النظام السائد بأسره. بموجب ذلك، تحاجج هوكس بأنّه بهدف قطع الطريق على إمكانات استمالة أيّ تحوّلٍ نسويٍّ غير متجذّرٍ في التزامٍ سياسيٍّ تجاه الحركة النسويّة الجماعيّة، يتوجّب تشديدُ الناشطات النسويّات الراديكاليّات على نظريةٍ نسويّةٍ ثوريّةٍ مُسيّسةٍ تحمل أجندتها المركزيّة الرغبةَ والعمل على تحويل المجتمع برمّته. يأتي ذلك عوضاً لما تعتبره هوكس إيديولوجيا الفرديّة الليبراليّة التي تغلغلتْ داخل الفكر النسويّ إلى درجةٍ أفضتْ إلى إضعاف الإمكانات الثوريّة للنضال النسوي، من خلال تركيزها على شغْلِ المرأة مواقعَ القيادة والسلطة، وإصلاح القوانين وتقويمها.

سيرورة التحرّر
تُبنى النظرية لدى هوكس كابنةٍ للتجارب الحيّة اليوميّة وشهادات الألم الشخصيّ، والمُنفتحة بدورها على السردَيْن الشفويّ والمكتوب، لتتموضع في قلب حيوات الجميع، وتصبح بمثابة تدخّلٍ نقديٍّ لها. وبما أنّ اللغة أحد أهمّ المفاتيح الممكنة نحو الممارسة النسويّة التحرّرية حين ننشد منها ذلك، فإنّ هوكس لا تقرأ النظرية المنشودة من بابٍ معياريٍّ للغة يجب دخوله، بل من الباب المطواع لها، على اعتبار أنّ تجارب الألم بذاتها قد تعمل على تخليق لغاتٍ جديدةٍ تواكبها. فكلّما قشّرنا طبقةً ما من آلامنا واستطعنا تسميتها، فإننا سنواجه طبقةً تلوَ أخرى من تلك الجروح الكثيفة، التي تحتاج إلى لغةٍ تسمّيها لكي نتمكّن من نزعها والشفاء منها.
إنّ ما تدعو إليه هوكس بخصوص استيعاب النظرية النسويّة لغاتٍ مبتكرةً من تسمية آلام النساء، ينعتق من مساعي تحميلها على فضاءاتٍ ليبراليّةٍ تتيح مجالاً رحباً من التفريغ والتنفيس، بداعي إحقاق النسيان وتحويل اللامُغتفر إلى أمرٍ يمكن غفرانه. خلافاً لذلك، نستشفّ من هوكس أنّ تعويلها على فاعليّة النظريّة النسويّة في منح الألم اسماً، والإنصات إليه بشكلٍ مستمرٍّ، يتأتّى من الرغبة في تشكيل ذاكراتٍ فرديّةٍ وجماعيّةٍ حول شبكة محدّدات الألم الأبويّ المتفرعّة جندريّاً وعرقيّاً وطبقيّاً، بل قوميّاً، وبالتالي الحضّ على مواجهتها والتحرّر منها. فكلّما ولّدتْ النظريّة طاقةً أكبر من استشعار النساء بعناوين آلامهنّ ومنتجيها، اشتعلت الحاجة إلى الثورة عليها وإحقاق التعافي التدريجي من شظاياها، عبْر تغذية المضطهَدات بوعيٍّ نقديٍّ إزاء شبكة التناقضات السياسيّة والاجتماعيّة التي يعشن وسطها. فبقدر ما تشكّل النظرية موطئاً حيّاً للتدليل على آلامنا، فإنها تشكّل مواقعَ مركزيّةً للشفاء والتحرّر الذاتيّ والجماعيّ.
يدفعنا ما سبق إلى استحضار طروحات فرانتز فانون حول اعتباره السواد عاملاً منتجاً مولّداً للأمل والتغيير الإنساني من قلب الألم الذي يحمله حاجز اللون. ففي كتابه «بشرةٌ سوداء- أقنعةٌ بيضاء»، يكشف فانون عن تجارب سوداء عدة تتوهّم بانخلاع الألم المتأتّي من لون البشرة بمجرّد تقمّصها لسانَ البيض ورداءهم الثقافيّ، وتناسيها لغتها وثقافتها، بشكلٍ يعبّر عن عقدة النقص التي خلقها الاستعمار الأبيض في السود تجاه ذواتهم وثقافتهم. ورغم توجّه الأسود نحو البياض والأوْرَبة كي يكفّ عن أن يكون أسودَ بنظر الأبيض، غير أنّ حاجز اللون سيظلّ عصياً على الكسر، ليظلّ الأسود المتخفّي بقناعه الأبيض أسودَ وأدنى بعينَي الأبيض «المتفوّق». تحمل هذه الصورة من التطلّع إلى البياض والعبور من خلاله إلى العالم المحظور على الأسود، واكتساب امتيازاته، سجناً مستمراً للأسود في قلب مقولات التفوّق العرقي؛ فكلّما سعى الأسود إلى أن يكون ذاك الذي ولّد عنده ثنائية الأدنى/ الأعلى، بقي مسجوناً ضمنها. في المقابل، يمكننا القول إنّ كلاً من فانون وهوكس يجعلاننا نعي الألم الإنسانيّ النابع من حاجز اللون الأسود، بشكلٍ لا ينتج رغبةً في حلول الأسود محلّ الأبيض، بل في التحرّر من القوالب العنصريّة والانقسامات الثنائيّة التي تحكُم العالم، ليكون بمثابة تحرّرٍ للإنسانية جمعاء، فلا يعود البياض يظهر امتيازاً ونعمة، ولا السواد عاراً يجرّ وصماتٍ طبقيّةً وجندريةً. بموجب ذلك، تدعو هوكس، من واقع مثول الهيمنة العرقيّة والطبقيّة والجنسيّة بوجه النساء السوداوات والملوّنات، إلى ما تسمّيها هيمنةً مضادةً لا ترنو إلى امتلاك النساء المهمّشات آخريّةً، بل إلى بناء عالمٍ إنسانيٍّ خالٍ من الأبويّة والطبقيّة والعنصريّة.

كلمةٌ أخيرةٌ
تخلُص هوكس إلى أنّ التحدّي الأبلغ أمام النسويّة يكمن في تشييد النظريّة، انطلاقاً من جريان سيرورة التحرّر في خضمّها، ومواكبتها القدرةَ الإنتاجيّةَ على تسمية الألم والتعبير عن جراحاتنا الناشئة عن العنف المُتراكِب للمنظومة الأبويّة، وآليات التصادم الراديكاليّ معها، على نحوٍ يجعل أذيّاتنا تمّحي شيئاً فشيئاً، وتتحوّل المواقع الماديّة للرجال والنساء على حدٍّ سواء. وإذ تصدح هوكس بهذه الكلمات «إنْ أنشأنا نظريّةً نسويّةً، فإنّ الحركات النسوية التي تتناول هذا الألم، لن تجد صعوبةً في بناء نضال مقاومةٍ نسويٍّ جماهيريٍّ»، فإنّه لن يكون ثمّة مجالٌ للحديث عن هوّةٍ بين نظريّة وممارسةٍ يتوجّب ردمها، لتُضحي النظريّة وصياغتها ومشاركتها كتابةً ومُحادثةً مع آلام الجميع وإليها، مُعمِلين حاسةَ السمع بخصوصها، هي ذاتها ممارسةٌ اجتماعيّةٌ تحرّريةٌ محمولةٌ على التعافي. «لنبدأ من جديد. فليكن لدينا أقمصة وملصقات وبطاقات بريدية وموسيقى هيب هوب... نستطيع أن نتقاسم رسالةً بسيطة لكنّها جبّارة: النسويّة حركةٌ تهدف إلى إنهاء الاضطهاد المرتبط بالتمييز على أساس الجنس. لنبدأ من هناك، فلتنطلق الحركة من جديد». هكذا ظلّت هوكس قابضةً على جمر النسويّة بسيرورتها الثوريّة حتى انطفائها عن وجه البسيطة.