تبدو علاقة الشاعر العربي بالمدينة معقّدة. فإذا كان حارساً للمدينة وناطقاً باسمها ومنافحاً عنها، تتردّد في شعره أهازيج الحنين إليها مثلما تتردّد أناشيد العشق والغرام، فإنّ سِيَرَ الشّعراء العرب قديماً وحديثاً تكشف عن هشاشة علاقتهم بالمدينة، فكثيراً ما أحاطت الشكوك بتلك العلاقة وحفّت بها المخاطر. لم يكن الشاعر العربي ليطمئنّ إلى «مكائد» المدينة وخدعها، ولا إلى زمنها المخاتل، فنزع في العديد من الأحيان إلى الإقامة في هوامشها، أي خارج قوانينها القاسية. حتّى أولئك الشّعراء الذين فتنهم «المركز» وأعمتهم غواية السلطة، فقد ظلّوا يتأرجحون بين عالم المدينة وعالم الشعر، ويتقلّبون بين متطلّبات المدينة وحاجة الشعر إلى الحريّة.
لقد أحبّ العديد من الشعراء مدناً ولدوا فيها أو قادتهم إليها صروف الزمان فعاشوا فيها طوعاً أو قسراً، ولكنّ مواقفهم منها، وخصوصاً في الأزمنة الحديثة، كانت سلبيّة في الغالب، وبعض الشّعراء لم يحبّوا المدن التي كانوا يعيشون فيها، أو تردّدت مواقفهم منها بين الحبّ والكره.
وفي المقابل، كان موقف المدن من الشعراء حاسماً. فقد كان الشاعر، وخصوصاً ذلك المنشق عن السلطة عدو المدينة الأوّل. وَعُدَّ الشّعراء «جندَ إبليس» يفسدون في المدن ويقضّون مضجع رؤسائها. ويعود ضيق المدن بالشعراء إلى أفلاطون. فقد أقصى صاحب «الجمهوريّة» الشعراء من مشروعه الديمقراطي، لأنّه عدَّ الشعر خطراً على المدينة. وإذا أضفى العرب على الشعراء هالةً من القداسة فنزّلوهم في منزلة الأنبياء والكهنة والحكماء، ورأوا فيهم كائنات خارقة تطلّ على عالم الحقائق الراسخة، فإنّهم في المقابل، وخصوصاً بعد الإسلام، ألصقوا بهم صفات مذمومة كالكذب، وأسندوا إليهم وظائف سلبيّة، ونظروا إليهم بعين الريبة ولم يطمئنّوا إلى دورهم في المدينة.
ويبدو أنّ الجفوة/ الفجوة بين الشعراء والمدن لا تعود إلى الخطر الذي يشكّله الشاعر على السلطة التي تحكم المدينة، لكونه لاعباً باللغة وبالوجود في فضاء يميل إلى التقنين والنظام والتراتبيّة، ولا إلى ما يمثّله من عبء على قوانينها ومعاييرها الاجتماعية والأخلاقية والدينية لقدرته على التأثير في الجمهور باستخدام فتنة الكلام وسحر اللغة فحسب، وإنّما يعود كذلك، إلى الصدام بين قيم الجمال التي يعبّر عنها وقيم المنفعة التي تحكم عالم المدينة من ناحية، وإلى جرأة الشاعر على انتهاك مرتكزات السّلطة التي تحكم المدينة من ناحية أخرى.
ومثلما حكمت المدن القديمة على شعرائها بالسجن أو القتل أو الإبعاد، مارست المدينة الحديثة ألواناً من العنف الرمزي والمادّي على عدد من الشعراء المعاصرين راوحت بين التعذيب والإقصاء والتّهميش والتّجويع، وناصبتهم العداء وألقت بهم في السجون والمنافي. وفي شعر مظفّر النوّاب وصلاح عبد الصّبور والجواهري ما يغني عن التفصيل في هذا الباب.
لم يكن محمّد الصّغيّر أولاد أحمد مدينيّاً، كان بدويّاً قادماً إلى المدينة من تونس الأعماق. جاءها «هارباً من خيام البدو عليلاً زاده الضّجر»، و«حيّاً لم يذق فرحاً كَمَيْتٍ ضِلُّه العمُرُ». ولكنّ سيرته وشعره ارتبطا بالمدينة ارتباطاً وثيقاً. فأغلب شعره يتّخذ من المدن عالماً له: تونس وبيروت وكربلاء وقرطاج والجزائر ونفطة وغيرها: بين أحضانها تتخلّق أحلامه، ومن أوجاعها تنبت خيباته. على أنّ أكثر المدن حضوراً في شعره العاصمة التونسيّة التي قضى فيها الجانب الأوفر من حياته. حلّ بها في ريعان شبابه، مسكوناً بطوباوّيات الشاب المتمرّد وبروح الشاعر الحالم. وقد تزامن حلوله بها مع فترة غليان سياسيّ (منتصف ثمانينيات القرن المنصرم) إثر تفاقم الأزمة الاجتماعيّة واحتدام الصراع بين المنظّمة الشّغيلة التّونسيّة وقوى اليسار والسّلطة. وفي ذلك الجوّ المشحون، كتب أوّل أعماله «نشيد الأيّام الستّة» وتمّت مصادرته وسُحب من المطبعة، وكتب أغلب قصائد مجموعته الثّانية «ليس لي مشكلة» في السجن. ولم تكن أعماله الأخرى لتخرق تلك القاعدة، فقد كانت في الغالب انتصاراً صريحاً للفقراء والكادحين والفئات الهشّة والهامشيّة. ومن الطبيعيّ أن يؤدّي ذلك إلى تشكّل صورة أولاد أحمد الصّعلوك المنشق الذي يقف على يسار السّلطة، يصارع حرّاس المدينة لنحت معالم وطن بلا أسوار، تتحرّر فيه «العصافير الحبيسة في الأقفاص»، وتحلّق في سماء الحريّة.
كانت المدينة بوّابة الشّاعر إلى حبّ البلاد واللغة والفقراء والجَمال. وكان الشعر مفتاحه لولوج تلك البوّابة. لم يكن شعره يشبه شعر أولئك الشعراء الذين يمارسون «الكذب الجماليّ»، فالشّعر عنده «تخمين لغويّ هدفه إعانة السّلطة على السقوط». إنّه فعل مقاومة، يشكّل من خلاله كوناً شعريّاً عماده الحلم: حلم شاعر إنسان يشقى بآلام الآخرين، وحلم وطن يرزح تحت كاهل سلطان جائر. وكان حلم الشّاعر عاصفاً لا يشفي غليله إلا تهديم أصنام الشّعر: «للشّعر أصنام سَأَهْدمُها/ ربّاً/ فرَبّاً ثمَّ أَنْهَدِمُ».
مع ذلك، كان حلم الوطن أهمّ من حلم الشّاعر، كان حلماً بلا ضفاف: حلم تحرير المدينة من الطغاة واللصوص والفقهاء والكهنة. ومن الطبيعي أن يكون ألم الشاعر من حجم الحلم. فقد عانى من المنع وذاق ويلات السّجن وطُرد من عمله زمن بورقيبة، ولقي التضييق زمن بن علي، ولم يسلم من الأذى بعد «ثورة جانفي 2011». لقد التقى الجميع على دمه: حرّاس القصور وحرّاس السماء وحرّاس المعنى.
لقد قارع أولاد أحمد المدينة الرسميّة بالأحلام والشعر، وتسكّع في شوارعها وحاناتها كالأنبياء، مبشّراً بالحياة والحريّة، وكان شعره رسائل حبّ- لم تصل- إلى المدينة التي أحبَّ، فقد ضاقت بفتاها ولم تهبه عطرها، ولم تقاسمه الغرام، فباتت منفاه وسجنَه والمقبرةَ الّتي تلتهم أحلامه: «يا تونس المنفى/ أزيحي عطركِ الواهي/ تَعَالَيْ/ نَفْتَتِحْ لَيْلَ العِتَابْ».
ضاقت به مثلما ضاقت بجدّه عبد الرّحمن بن خلدون، فقد كانا غريبين –كليهما- في مدينة تضيق بأحلام الشّعراء والمثقّفين. ولعلّ ذلك ما يفسّر استخدامَ الشّاعرِ صاحبَ «المقدّمة» رمزاً وقناعاً، يشكّل من خلاله جغرافيا المدينة تشكيلاً قائماً على المواجهة بين المثقّف والسّلطة: «يا ابنَ خَلْدُونَ المَدِينَةُ أَضْيَقُ مِنْ خُطَاكْ (...) فاخْرُجْ مِنَ الوَثَنِ الجَدِيدْ/ واكْتُبْ إلَى الوَثَنِ المُقَابِلِ مَا يَلِيقُ بِحَجْمِهِ/ (...) قل ما تُرِيدْ/ فَلَنَا المدَى/ وَلَهُ الصَّدِيدْ».
كانت حياة الشّاعر في المدينة معركة بلا هوادة: «حارَبَنَا الأنبياء بلغتنا، الفقهاء بعمائمهم، الملوك بسيوفهم، العامّة بجهلها، الحبيبات بدلالهنّ.. هكذا نحن من حال إلى حال ومن مظلمة إلى مظلمة ومن يتم إلى يتم».
وقد كانت «ثورة 2011» استدراك الشّاعر على السّلطة، أتاح له فرصة إعادة ترتيب علاقته بالمدينة/ الوطن، عبر إعلانه نفسه ممثّلاً للقيادة الشعريّة للثورة التونسية، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون منزله في غابة رادس ـ بعيداً عن المدينة ـ مقرّاً لتلك القيادة و«هيئة أركانها». لقد كان ذلك بمثابة ثأر من «المدينة» التي نهشت كبده مثلما نهشت كبد «بروميثيوس» من قبله. وكان الجرم واحداً: سرقة نار اللّغة والحريّة من حرّاس المدينة. غير أنّ القادمين من الأقبية وباعة الأوهام، سرعان ما أفسدوا عليه حلمه الثوريّ، لتتحوّل الثورة إلى «ثورة جريحة» يجثم على روحها «جنديّ فارّ من كتائب الماضي».
لقد عاش أولاد أحمد الحياة في المدينة بشجاعة: رفض إغراءات السلطة التي طالما حاولت تدجينه مستغلّة وضعه المادي أو الصحي، وواجه مشروع الإسلام السياسي، ما جعله عرضة إلى الأذى المادي والمعنوي، وقد طاوله عنف الإسلاميين حتّى بعد وفاته، وتجاهله الأكاديميّون والنقّاد مُصانعةً للسّلطة أو خوفاً منها أو ترفّعاً على مشروعه الجماليّ، فهجاهم هجاء مقذعاً، وغلبت العداوة على علاقته بهم. ولم يكن متذمّراً عندما رثا حاله بين قومه الذين «عقروا ناقته وأباحوا دمه وباعوه خمراً رديئاً». كانت تلك شهادةً، تجمع بين مرارة الموقف ولذعة السّخرية، على مدينة/ وطن ضاقت بأحلامه. وكم بالأحلام العظيمة وبإيقاع الشّعراء وبالمعاني العميقة ضاقت مدن هذا الشرق الحزين المليء بالأوهام والصّحارى والرّؤساء!