في كتاب «لماذا أكتب؟» للروائي البريطاني جورج أورويل، عبّر عن أمنيته بأن يجعل الكتابة السياسيّة فناً. برغم أنّ مقالاته ليست منشورات سياسيّة وإنّما تركيزها أدبيّ، إلاّ أنّه يرى أنّ كلّ كاتب هو بشكل ما داعية سياسي، وأنّ مواضيعه محكومة بالرسالة التي يحاول نشرها.وفي السياق ذاته، كتب محمد الصغير أولاد أحمد «كتاب التوانسة» (الدار العربية للكتاب) الذي ضمّ مجموعة من المقالات التي كتبها بين عامَي 1983 و2009 في جرائد ومجلات ومواقع إلكترونية تونسيّة وعربيّة، منها ما نُشر ومنها ما مُنع، بعدما كانت المخطوطات تُرسل إلى مصالح وزارة الداخلية كما ورد على لسان أولاد أحمد في تصدير الكتاب بعنوان «وشاية».
وحين تقرأ «كتاب التوانسة»، تجد نفسك إزاء عمل مهم يطرح جملة من القضايا التي يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، وتتعلّق بموقف الكاتب ودوافعه للكتابة ورؤيته للعالم وتجربته الجماليّة. ومن خلال الاطّلاع على هذه المقالات المختارة في الكتاب، يتأكد لنا أنّ المقال - الذي نتعامل معه عادة بخفّة - يندرج في باب الأدب الكبير كما أشار ماركيز. هكذا نقف مع أولاد أحمد عند سمات كتابته للمقال، هذا الجنس الكتابي الغريب والمعقّد الذي يأخذ طابعاً غير رسمي وأكثر مرونة، كما أنّه يفسح المجال للقارئ للتخمين والتأمل لأنّ كاتب المقال لا يتخذ صفة الواعظ أو الخطيب، بل يبدو كأنّه يفكر بصوت عالٍ ويتساءل ولكن هذا الأمر ليس متاحاً للجميع، وحدها العقول الحساسة والجيّدة التخزين قادرة على فعل ذلك.

وظيفة المثقف
ضمّ هذا الكتاب مجموعة متنوعة من المقالات، حيث تمّ التطرق في قسم منها إلى قضايا فكريّة وأدبيّة تشمل الشعر والرواية والسينما والفعل الثّقافيّ عامّة. وفي قسم آخر، كان الحديث عن شواغل تهمّ الشأن العام التونسي والعربي في السياسة والدين والمجتمع. فنشر الثقافة على مستوى الجماهير يندرج ضمن وظيفة المثقّف في خدمة المجتمع ومواجهة تحدياته المختلفة دفاعاً عن القضايا العادلة كالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة، رفضاً لكلّ أشكال الظلم والقهر والتسلط. وهو ما يشكّل جوهر وظيفة المثقف مثلما حدّدها هشام جعيط بوصفه ذاك الذي يهتم بروح المجموعة أكثر ممّا يهتم بجسدها، أيّ بكلّ ما يتعلّق بالفكر والثقافة والدين والفلسفة والسياسة. فثقافة المجتمع قد بنيت على أصول المعارف، ومن يحمل على الأقل أجزاء من هذه المعارف قد يسهم في إصلاح المجتمع وعند ذلك يمكن أن يُنعت بالمثقف.
وعلى هذا الأساس، عمد أولاد أحمد في مقالاته إلى صهر الغرض السياسيّ مع الغرض الفنّي في وحدة كاملة، انطلاقاً من مبدأ أن لكلّ كاتب رسالة سياسيّة، سواء أكانت كتابته قريبة من السياسة أم بعيدة عنها، إذ لا بّد من أن يكون هناك هدف واع من أيّ نصّ إبداعيّ. فالأدب لا ينفصل عن الواقع وليس معزولاً عن المجتمع، بل إنّ الأديب هو جزء من حركته يتأثر به ويؤثر فيه، ويذكرنا هذا بما ذهب إليه غرامشي في تحديده لدور المثقف في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمي إليها، أيّ القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والمشاركة في تغييره. ذلك أنّ مهمّة الأديب تكمن في النفاذ إلى البنية التحتية للمجتمع وتعرية ما يخترق نسيجه من صراعات في مظاهرها الاجتماعيّة والنفسيّة المتولّدة في الواقع من الظروف والأوضاع الحافة بحياة الأفراد والجماعات. ومن هذا المنطلق، عمد أولاد أحمد إلى المشاركة في الحياة السياسيّة بعد أحداث الثورة التي عرفتها تونس، وكان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسيّ والانتقال الديمقراطي التي تأسّست في 15 آذار (مارس) 2011 وكان هدفها الإشراف على مسار الانتقال الديمقراطي وعلى الإصلاحات السياسيّة والدستورية التي عرفتها تونس. وقد تعرضت مواقفه وتصريحاته خلال هذه الفترة إلى موجة من الانتقادات وصلت إلى حد إمضاء عريضة تنزع عنه صفة الشاعر.
جسّد أولاد أحمد نموذج المثقف العضوي، ولا يتمثل دوره في الفصاحة المحرّكة للعواطف والانفعالات بل الاندماج في الحياة العملية والقدرة على الإقناع وصياغة مشروع إصلاح ثقافيّ، وقد كرّس ذلك من خلال تأسيسه أول بيت للشعر عند العرب في تونس بهدف التخفيف من حدة الشعور باليتم؛ يتم الشعر المغاربي تجاه الشعر المشرقي كما يوضح في سلسلة من المقالات التي خصّصها لهذا الإنجاز. وقد كان منطلقه في هذه الفكرة طرحه للسؤال التالي: إذا كان الشعر ديوان العرب، فلماذا لم يشيدوا له بيتاً، عدا تلك الأبيات التي نحتها الشعراء من أجسادهم؟
دافع أولاد أحمد عن الديمقراطية وحرية التعبير لتجاوز عوائق الممارسة الثقافيّة واعتبرها عدواً جديداً في الأنظمة الديكتاتورية يهدد ديمومتها. لذلك حاولت السلطة أن تمارس قيوداً على حريّة الرأي وحجراً على حق المثقف في الاختلاف حتّى تسيطر على المثقفين وتتحكّم في قدراتهم بالنظر إلى دورهم المؤثر في المجتمع وباعتبارهم مكوّناً أساسياً في صناعة الواقع الاجتماعيّ بمختلف مجالاته وميادينه عبر فرض أنظمة للرقابة بشكل يسمح لها بالتدخل لممارسة سياسة الإقصاء والاضطهاد لا ضدّ الأفكار فحسب ولكن ضدّ وجود المبدع أيضاً، كما هو الشأن بالنسبة إلى أولاد أحمد. فقد تمت مصادرة مجموعته الشّعريّة الأولى «نشيد الأيام الستة» (1984-1988) وإعدام ثلاثة آلاف نسخة منها، ودخل السجن لفترات قصيرة ومتباعدة وطُرد من العمل لمدة خمس سنوات وخرج من إدارة بيت الشعر إلى ما يشبه الإقامة الجبرية الخالصة الأجر بسبب اختلافه مع الدولة حول كيفية إدارة هذه المؤسسة.
فكانت الكتابة عند أولاد أحمد دفاعاً عن مشروعيّة البقاء، وقد تحمل في سبيل ذلك شتى ألوان الإقصاء والمصادرة. فالمثقف هو ناقد اجتماعيّ، إنّه الشخص الذي همّه أن يجدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على الإسهام في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعيّ أفضل، نظام أكثر إنسانيّة وأكثر عقلانية. إنّه بذلك يصبح ضمير المجتمع على حد عبارة محمد عابد الجابري.
وبناءً على ذلك، اتّسمت العلاقة بين أولاد أحمد والسلطة بالنفور، فكانت مقالاته تتعرض لعبث الرقيب ويقع تغيير عناوينها والإخلال ببنية النصوص. أمّا حضوره في المشهد الثّقافيّ التونسيّ، فلم يسلم أيضاً من تدخل الجهات الإدارية والحزبية، فيقع إلغاء اسمه أو إلغاء التظاهرة وفي حالة حضوره يُطلب منه عدم قراءة بعض المقاطع الشّعريّة وقد عبّر عن طبيعة هذه العلاقة بقوله:
«هذا أنا...
لا يقرأ البوليس نصي في الجريدة ناقصاً
بل يقرأ المخطوط حذو مديرها
في الليل قبل توجّعي وصدورها
وإذن...
سأكتب بالبريد... لمن أريد وما أريد»
انتقد أولاد أحمد السياسة والساسة محلياً وعربياً وكان مهموماً بشواغل الشعب العربي، يدافع عن قضاياه ويشرح واقعه، بين الاستبداد والديكتاتورية والتطرف الديني يقع إنتاج الماضي بكلّ مساوئه كما في كتب الأوائل. لذلك يقترح في إحدى المقالات التي حملت هذا العنوان، ضرورة زراعة عضو جديد داخل الدماغ العربي حيث يصير عقلاً في مرحلة أولى ثم عقلاً تعددياً في مرحلة موالية يقرّ بحق الاختلاف وبواجب تداول السلطة في إطار دولة ذات دستور أرضي من صنع البشر، وليس من تعاليم السماء. هذا العضو هو الديمقراطية.
لقد شكّلت الكتابة عند أولاد أحمد محنة لأنّه يعبر من خلالها عن رفضه للسيستام الذي جعل من الكتابة ضدّه تهمة تستوجب العقاب وتُلحق بصاحبها الأذى، فدافع عن حقه في الاختلاف وأكد أنّ حرية الإبداع لا توهب من قبل أيّ سلطة، بل يتم فرضها بقوة الأمر الواقع بواسطة الكتابة نفسها. ويميّز هنا بين الكتابة للكتابة والكتابة التي يطمح مقترفوها إلى التقرب من أصحاب السلطة. وتكمن الرغبة في الكتابة حسب أولاد أحمد في ذلك الحافز لدفع العالم في اتجاه معين يعتقد صاحبه أنّه الاتجاه الصحيح. أمّا عن دور الأدب، فإنّه يعتقد أنّه يقودنا إلى عالم جديد ليس عبر كشفه ما هو غريب، بل عبر كشفه لما هو اعتيادي. وتأكيداً لهذه الفكرة، كانت مواكبة أولاد أحمد للحراك الثوري في تونس، وهو ما أسفر عن يوميّات «القيادة الشّعريّة للثورة التّونسيّة» التي دوّن فيها كلّ الأحداث التي رافقت اندلاع الثورة التّونسيّة في سيدي بوزيد منذ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010.
لقد أضحت الكتابة عند أولاد أحمد محاولة لتأصيل الكيان والدفاع عنه ضدّ محاولات التهميش التي تمارس بحقّ المبدع، فحاول التعبير عن الواقع التونسي والعربي في بعديه السياسيّ والثّقافيّ، ليغدو فعل الكتابة علامة فارقة تعكس رؤية المبدع للكون وتمثلاته للسلطة ومخاوفه من القمع والاضطهاد والرقابة ورغبته في الانعتاق والتحرر من كلّ ما يكبّله.

* كاتبة وباحثة تونسية