رغم أنّ تونس ترتبط في المخيال العربي بالأنس، إلّا أنّ مدوّنتها الشعرية المعاصرة ترتبط بالشعر الملتزم! أي غلبة الشعر الذي يدافع عن حق الحياة لا الشعر الذي يمارس الحيلة. سواء ما قبل الاستقلال الوطني (1956)، ويمثل هذه المرحلة أبو القاسم الشابي، أو ما بعد الاستقلال؛ ويمثل هذه المرحلة الصغير ولد أحمد. في الأولى مقاومة الاحتلال، وفي الثانية مقاومة الاستبداد.غير أنّ الشعر الملتزم في تونس لم يغلب أولوية القضية على الجماليات، فكان ديوان «أغاني الحياة» الذي كتب خلال الثلث الأول من القرن العشرين، واحدةً من مبادرات الحداثة في الشعرية العربية؛ وكانت الدواوين القليلة لأولاد أحمد، بدءاً بـ «نشيد الأيام الستة» من أكثر التجارب الشعرية التونسية حداثة، رغم نبرتها الغنائية.
من هنا، نفهم أنّ الشعر التونسي، لأسباب موضوعية كثيرة، منها جمال المكان وارتباطه بالأنس، زاوج بين النضال والجمال. ثنائية صعبة التحقيق بالنظر إلى حساسية الشعر بالمقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى. لم يحدث هذا في الجارة الجزائر، إلا على مستوى فرديات كانت تُكتب باللغة الفرنسية.
لقد جعلت جرعات الرفض للواقع القائم في تونس الصغير ولد أحمد يسخّر شعره بصفته سلاحاً، لكنه سلاح ذو حدّين. حدّ لقتل قيم الاستبداد لدى الحكّام والظلاميّين، وحدّ لإحياء قيم التحرّر في أذهان ووجدان الشعب. وهو خيار صعب من حيث أعبائه ورهان صعب من حيث تحقيقه والحفاظ عليه بعد تحقيقه.
إنّ قلة قليلة منتمية إلى المدونة الشعرية، بما فيها في الفضاء الغربي، استطاعت أن تحمي نفسها من الابتذال والاستسهال والضعف الجمالي الذي يثمره التركيز على الخطاب المباشر. والصغير ولد أحمد واحد من هذه النخبة القليلة. ويبدو أنه تفطن باكراً إلى هذا الجانب، فاحتمى بقلة النشر.
لقد كان قادراً على أن يصدر ديواناً كل عام. فسمعته الجماهيرية كانت تؤهّله لأن يبيع. فهو من الشعراء الذين يُعدون على الأصابع الذين كانوا قادرين على أن يذهبوا إلى أكثر من طبعة؛ لكنه صبر على قمع شهوة النشر، وهي شهوة عفوية في الذات الشاعرة، مقابل أن يحافظ على شهوة الإحساس بالعمق والتألّق؛ رغم أنها شهوة مرتبطة بقمع النظام له. فالرجل سُجن وصودرت بعض نصوصه وتعرّض رزقه وحقّه في العيش والتعبير للمصادرة!
وما يميز الصغير أولاد أحمد كونه كان يحمل في شعره هدفين متناقضين هما الاحتفاء بالثورة الشعبية بصفتها مكسباً وطنياً من حيث المبدأ، ومواجهة الأصوات الظلامية داخلها؛ بعد اختراقها وركوب موجتها ومحاولة سرقتها، فهو شاعر الوعي والجمال بامتياز.

* شاعر وروائي وإعلامي جزائري