يتماسّ مسلسل «الاختيار 3: القرار» مع سردية رائجة. الثورة مؤامرة كادت أن تسقط الدولة، استدعت تدخّل المخلصين، لمجابهة المخاطر. هكذا تشرح لنا صحف القاهرة ويحتفي نقّادها بالعمل. كان مسلسل «هجمة مرتدة» (رمضان الماضي) قد تناول حراك ما قبل يناير والشهور الأولى من الثورة، وحمل رسالة أساسية: الثورة فعل تآمري، قادته أجهزة مخابرات وجماعات إرهابية، بينما «الاختيار» في موسمه الثالث أكمل السردية، مركّزاً على المرحلة الانتقالية ليصوّر مشاهد الإنقاذ من المؤامرة. وفي العمل الذي حظي بحملات دعائية واسعة، وظّفت ـ درامياً ـ مشاهد العنف السياسي، وأنشطة الجماعات الإرهابية في سيناء، وعجز إدارة الدولة خلال حكم الإخوان كإحدى أضعف مراحل الثورة، ونقطة فاصلة بين الفوضى والنظام، الخوف والأمن.

أراد المسلسل عرض الأزمة بعيون السلطة، ووجّه رسائل عدة، بنيت عليها استنتاجات، أبرزها أنّ الانتقال الديموقراطي تعثّر، وأنّ الديموقراطية والحريات ليست حلاً لأزمة الدولة والمجتمع، وأنّ أيّ حراك احتجاجي يحمل احتمالات بخطر داهم. بناءً عليه، لا ديموقراطية ممكنة في ظلّ الأزمات. يطرح العمل رسائل كامنة: عليكم الاختيار بين الديموقراطية التي صعدت الإخوان ومخاطر إسقاط الدولة. لا خيارات أخرى في «الاختيار» كما في الخطاب السياسي للسلطوية. وفي العمل، رسائل مكرّرة في المؤتمرات وعناوين الصحف منذ 2011: المحتجّون أصحاب «المطالب الفئوية» يعطّلون الإنتاج، والدولة في أزمتها، تعجز عن تلبية مطالبهم، وعليكم الرضى بالواقع، أي بمعنى آخر الإذعان بوصفه موقفاً عقلانياً. يُستخدم الإخوان في الدراما، كما استخدموا في محطات الثورة. تحالفات توظّف جسد الجماعة في مواجهة الحراك السياسي والاجتماعي، عزلوا أنفسهم، فانعزلوا، وقعوا في الشباك، ولم يتعلّموا من دروس تحالفات سابقة. وحتى في نقد المسلسل، تندر الشجاعة في تناول المشهد ككل، يستخدم منهج السلطة في التجزئة، وتندر آراء تجسد مراجعة واعترافاً بالأخطاء في التحالفات السياسية. غالباً ما يصوّر كل طرف أنه انتصر للثورة والوطن. تدور الكاميرا بهدف إثبات انتهازية «الجماعة» وعنفها. الإعلان الدستوري الأول بالتفاهم مع المجلس العسكري. تحالف قصير يسمّيه خالد الصاوي الذي لعب دور خيرت الشاطر «شهر العسل». وفي حلقات المسلسل، تنفي التفاهمات المتبادلة للتأسيس لفكرة أنّ السلطة كانت دوماً في خط مواجهة مع الإخوان. ومن الإعلان الدستوري الأول الذي خلق انقساماً على أساس الهوية، يتم الانتقال إلى الإعلان الثاني، الذي يثبت ديكتاتورية محمد مرسي وعنف الجماعة ضد المتظاهرين في محيط قصر الاتحادية. تتوزع المشاهد ما بين صراع السلطة مع الإخوان وصراعها مع الجماعات الإرهابية في سيناء في خط درامي متشابك.
يتجاهل العمل ذكر الثورة بشكل عام. وفي مشاهد محدودة، يتم وصفها بأحداث وظروف صعبة تحمّل أعباءها متخذو القرار، أي أنّها ليست صراعاً بين شعب له لائحة مطالب ضد سلطة نظام حسني مبارك وسياساتها. لا تنفصل الرؤية الدرامية ولا السيناريو عن الخطابات المتكرّرة للثورة المضادة، كلاهما يؤسّس لموقف رافض للثورة، ولأي فعل جماهيري، ويتعامل معها بمنطق جولات الحرب. وفي المسلسل، لا سياسيّين فاعلين ولا مواقف لطبقات اجتماعية. الشعب يتكوّن من أفراد محبطين ويائسين ينتظرون الإنقاذ. يقدّم أفراد الأجهزة النظامية كبديل لمجتمع السياسة، التحليل والرؤية، يمتلكون للمفارقة تفاؤلاً حول «الشعب الذي سيُسقط الإخوان». يرد العمل لرجال الدولة اعتبارهم، ويُعيدهم لحكم البلاد بعد اختطافها، ومعهم تعود حالة الاستقرار. إجمالاً، وظّف العمل أضعف حلقات الثورة المصرية، عام حكم الإخوان، بما فيها من مظاهر عنف واشتباكات، سبقها تحالفهم مع السلطة، ثم تحالف القوى السياسية ضدهم. ويستبعد العمل مظاهر الصراع الاجتماعي والطبقي بشكل مقصود، لتمييع الصراع وإخفاء أسبابه، ويبقي على شعار واحد «إسقاط الإخوان» لتنتهي الثورة بانتقال السلطة إلى رجال الدولة. تظهر الحشود في التتر، كمقدمة واحتفاء بصناعة مشهد «30 يونيو». مجرّد مظهر، وبعدها وقبلها تغيب. ويبدو العمل مرتبكاً ما بين إظهار فعل شعبي أزاح الإخوان، وبين تعظيم دور السلطة في اتخاذ القرار بإنهاء حكم الجماعة. بالنظر إلى خطابات وشخوص الجمهور داخل العمل، نجدها موزعة بين المحبطين والخائفين والمتفرّجين على المشهد باستخدام كادر تصوير أساسي في المقهى: بعضهم يتندّر أو يشكو تعطّل مظاهر الحياة، لكنهم بشكل عام غير قادرين على الفعل، بينما تركّز المشاهد الأساسية على رجال الدولة في مواجهة الإخوان، وصورة الشعب عاجزاً منكسراً، وشخوصه في حالة قلق وتوتر والأحزاب والسياسيون غائبون والشباب خلف شاشات الكمبيوتر قبل رحيل الإخوان بأشهر قليلة. يتم التركيز على صراع الهوية وقضايا الأمن والإرهاب. يختفي الأساس الطبقي والاجتماعي للثورة.
يٌستخدم الإخوان في الدراما، كما استُخدموا في محطات الثورة

تتركّز المشكلات على انقطاع تيار الكهرباء ونقص الدولار في تبسيط لأزمة اقتصادية. عبر تلك المشاهد المتتالية، يتمّ تطويع الجمهور وحبسه داخل خوفه، ويحاول العمل إعادة الاصطفاف الذي تبلور في 2013 ضد الإخوان المسلمين، ما أتاح الفرصة للسلطة لتقدّم نفسها للمجتمع كبديل. ورغم أنّ الإخوان غابوا عن المشهد وضعفوا والثورة انهزمت، لكنّ الدعاية عبر الخوف مستمرة لاستدامة الوضع واستقراره. درامياً، يتم رسم عالمين متوازيين وثالث مهمّش: شخوص السلطة، ذات القدرات الخاصة، التي تمتلك حكمة نافذة وقلوباً رحيمة وخفّة ظل أحياناً. وهناك آخرون متآمرون قساة يمارسون العنف على محيطهم الاجتماعي. نبت شيطاني سيتم نزعه. وهناك عالم ثالث مستضعف، يضمّ مخدوعين ومحبطين يحتاجون إلى تبصير ونصح. كما كلّ القصص الملحمية، لا بد من أن يغلق العمل بإنقاذ المحبطين والمخدوعين، والقضاء على المتآمرين. في النهاية على الجمهور، أن يعيش سجين المرحلة الانتقالية والخوف، وأن يعترف بفضل من أنقذوه، ويسلّم أمور السياسة والمجال العام لمن يمتلكون المعلومات والتسجيلات والقدرة على التصرّف.

«الاختيار: القرار»: «أي. آر. تي. حكايات» (23:30)، «المحور» (23:30)، «روتانا خليجية» (23:00)، «أون إي» (22:00)

* كاتب وباحث مصري فى الإنثروبولوجيا الاجتماعية والسياسية