هو الراحل أسامة أنور عكاشة؛ والد الدراما التلفزيونية المصرية، مع أعمال كبيرة مثل «ليالي الحلمية» (1987- إخراج اسماعيل عبدالحافظ)، و«زيزينيا» (1997، إخراج جمال عبدالحميد)، و«أرابيسك» (1994، إخراج جمال عبدالحميد)... لذلك، لم يكن مستغرباً أن يكون «راجعين يا هوى» (ولو أنّه كتبه كرواية وليس كعمل تلفزيوني) عملاً جميلاً إلى هذا الحد. هي قصةٌ بسيطة، لكنّ عكاشة يحبّ استخدامها: الشخصية الجذابة والمحبّبة تعود إلى بداياتها، وتخوض تجارب مع ماضيها. يأتي «راجعين يا هوى» بمثابة إنقاذٍ لموسم رمضاني شبه فاشل درامياً، مع أعمال لا يعلق أيّ منها في الذاكرة، لا على صعيد الأداء، ولا على الصعيد الحكائي/ القصصي؛ اللهم باستثناء العمل التوثيقي شبه الدرامي «الإختيار» بجزئه الثالث لأسبابٍ لا تتعلّق بالدراما وصنعتها أبداً.تبدأ الحكاية مع عودة بليغ (خالد النبوي) إلى مصر بعد تعثّره مالياً في أوروبا حيث كان يعيش. بليغ يجد عائلتي شقيقيه المتوفيين في عراكٍ وصراعٍ مستمرّين. يقودهما ذلك إلى تقسيم «فيلا» العائلة مع وضع حائط في المنتصف كجدارٍ عازل. هذا الجدار العازل، ليس «مادياً» فحسب، بل نفسي أيضاً. يحاول بليغ كسر هذا العزل، من خلال تواصله مع العائلتَين الأموميتين/ الماتريراكيتين (matriarchic)، فالأولى تسيطر عليها شريفة (أنوشكا)، والثانية يسرية (وفاء عامر). شريفة الأرستقراطية، ذات الشعر القصير، المسيطرة بدون أن ترفع صوتها، تتحدّث بالإتيكيت وعادات الأسر الراقية، وتمارس نوعاً من الفوقية على الجميع، وتصنّف نفسها على أنّها متفوقة وأفضل من زوجة شقيق زوجها يسرية. يسرية بدورها ابنة بلد، لكنها غير متعلّمة، تلبس أكواماً من الذهب، وتمثّل محدثي النعمة، فضلاً عن تحدّثها بلهجة قوية وعالية. لكلا السيّدتَين أبناءٌ يشبهوهما. شريفة لديها عمرو (شريف حافظ) ويسرية لديها مدحت (إسلام جمال)، فضلاً عن ولدين أصغر سناً يتمرّدان على معتاد العائلتين، ليقعا لاحقاً في حب بعضهما، أي ولاء (سلمى أبو ضيف) ابنة شريفة، وطارق (نور النبوي وهو بالمناسبة الابن الحقيقي لخالد النبوي).
طبعاً القصة تزداد جمالاً مع إضافة الجد جابر (أحمد بدير)، والدكتورة النفسية ماجي (نور) التي يقابلها بليغ في الطائرة، ويتورّط في علاقة حب بطيئة معها، فضلاً عن ـ إحدى نجمات العمل ــ فريدة (هنا شيحة) حبيبة بليغ السابقة المهووسة به إلى حدٍ ما. تتعقّد القصة لاحقاً مع اكتشاف بليغ أن شقيقيه قد قُتلا، وأنّ لرؤوف (إسلام ابراهيم) محامي عائلة يسرية وزوج ابنتها عزة (ريهام الشنواني) له علاقة بالموضوع. يرسم المسلسل درامياً أكثر من حكاية، وأكثر من قصّة، لكنها على عادة مدرسة أسامة أنور عكاشة، لا يقسّمها على طريقة القصص المتوازية، بل على طريقة القصص العنقودية، بمعنى أنّ لديه قصة واحدة أصلية تتفرّع منها قصص جانبية، فيما لا قصص «لا علاقة لها ببعضها البعض» كما يحدث في المسلسلات الأوروبية/ الغربية عامةً.
أدائياً، وهذا قلب الحكاية، يرسم معظم المشاركين في العمل شخصياتهم ببراعة وحرفة، حتى الممثلين الشباب مثل سلمى أبو ضيف ونور النبوي يقدّمون أداءً جميلاً يذكّر بكبار النجوم. خالد النبوي يقدّم شخصية محبوكة ومرسومة، تجعل المشاهد يتابعه كما يتابع معظم الشخصيات القاعدية التي أسّس لها عكاشة من قبل كشخصية سليم البدري في «ليالي الحلمية»، أو حسن أرابيسك في «أرابيسك»، أو بشر عامر عبدالظاهر في «زيزينيا». يشعر المشاهد كما لو أنه يعرفها، وتعيش أمامه. تمتلك عمقاً وصفات حقيقية. الأمر نفسه ينسحب على أداء النجمتَين الماهرتَين أنوشكا ووفاء عامر، حيث كلّ واحدة ترسم الشخصية كما لو أنها هي فعلاً: تتحرّك أنوشكا بأرستقراطية، تتحدّث بصوتٍ خفيض، تتدلّع بثقة وبهدوء، وفوق كل هذا تعرف متى «تلدغ» لدغتها المميتة. وفاء عامر بدورها، قطعت شوطاً كبيراً منذ بداياتها. هي الآن متمكّنة كثيراً من شخصيتها الأدائية: ترفع صوتها وقتما تريد، تتحرك جسدياً كأمّ من الطبقات الشعبية أصبح لديها مال كثير، وسلطة ونفوذ. تمارس هذا الأمر بتلقائية واسعة، وتعوّض عند عدم معرفتها باللغات أو عدم إجادتها للقراءة والكتابة، بالفطنة وسرعة البديهة، وقوة الشكيمة والشخصية. الشخصيات النسائية في العمل تحظى بقيمة واسعة في أعمال عكاشة؛ وهي أيضاً قاعدية: فمن نازك السلحدار وزهرة في «ليالي الحلمية»، إلى عايدة ونعيمة مرسال في «زيزينيا» إلى توحيدة وأنوار في «أرابيسك». إنه يتفنن في خلق شخصياتٍ قاعدية يركن إليها المشاهد، ويراكم عليها المخرجون والكتّاب لاحقاً. ولا يختلف مسلسل «راجعين يا هوى» عن ذلك.
يرسم معظم المشاركين في العمل شخصياتهم ببراعة وحرفة

تؤدي نور بمهارة دور الطبيبة النفسية، التي نشعر بصراعاتها ولو لم تحكِ عنها الكثير، فيما شيحا تعطي من قلبها أداء يليق بالنجمات من خلال دور فريدة، الحبيبة المجنونة والمهووسة بحبيب شبابها الذي تركها. إنها تكسّر وتضرب وتنفعل، لكن بطريقة لا تجعل المشاهد يخاف منها أو يكرهها، بل بالعكس، يحبها ويتعاطف ويضحك معها. طبعاً، هناك أخطاء بسيطة في المسلسل كان يمكن التغاضي عنها مثل اختيار إسلام إبراهيم في دور رؤوف الذي أنهك المشاهدين لكثرة تمثيله المصطنع والمبالغ فيه. طبعاً إسلام ابراهيم تعلّم هذا الأداء المفتعل وغير المحبّب من خلال برنامج «SNL بالعربي» ثقيل الظل والدم في آنٍ. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ السيناريست والطبيب محمد سليمان عبدالملك حوّل هذا النص إلى نص تلفزيوني، وهذا يُحسب له؛ هو الذي قدّم في السابق أعمالاً لافتة مثل «الجسر» (2022)، «قصر النيل» (2021)، و«ممالك النار» (2019).
إخراجياً يتقن محمد سلامة حرفته إلى حدٍ كبير، لكنه هذا العام يتفوّق على نفسه. هو قدّم أعمالاً جيدة مثل «رحيم» (2018)، لكنه في هذا العمل، يعوّض ربما ما خسره العام الفائت مع مسلسله غير الناجح «ملحمة موسى». لعلّ «راجعين يا هوى» أفضل مسلسلات هذا العام، فالقصة مسبوكة، والأبطال مرسومون بطريقة محترفة، والممثلون يؤدون بطريقة عالية، فضلاً عن ظرافة القصة وكوميديتها في كثيرٍ من الأحيان.

* «راجعين يا هوى»: «دي إم سي» (18:30)، «زي ألوان» (16:00)