لن يكون المخرج الإيراني أصغر فرهادي الأخير الذي يُتهم بسرقة الأفكار. مخرجون كثر قبله واجهوا التهمة إياها، وليس آخرهم غييرمو ديل تورو عن فيلمه «شكل الماء» (2017) وقبله جايمس كاميرون (أفاتار)، وسيرجيو ليوني (a fistful of dollars) وحتى أفلام «حرب النجوم» وأفلام «ديزني». خلال الأسبوع الماضي، ضجّ الإعلام بخبر إدانة فرهادي بسرقة فكرة فيلم «بطل» (2021 ـــ جائزة «كان» الكبرى) بعد دعوى رفعتها عليه إحدى طالباته السابقات، مدّعيةً أنّ مخرج «انفصال» سرق فكرة فيلمه من وثائقي أنجزته خلال إحدى الورش السينمائية. رفعت أزاده مسيح زاده دعوى بعدما كان فرهادي رفع بدوره دعوى قضائية عليها بتهمة التشهير. وفي الحالتين، حكمت المحكمة لصالح مسيح زاده. على أن تُحال القضية إلى قاضٍ ثانٍ سيقرّر ما إذا كانت ستتم إدانة فرهادي أم لا.

واجه غييرمو ديل تورو تهمة السرقة في فيلمه «شكل الماء»


اتُهم فيلم سيرجيو ليوني «حفنة دولارات» بأنّه مسروق من فيلم Yojimbo لأكيرا كوروساوا

بعيداً عن التعريف القانوني لأصناف السرقات الأدبية والفكرية والفنية، وعن الحكم القضائي الأخير المُنتظر في هذه القضية، كما بعيداً عن «الشرعية والحصانة» اللتين يتمتع بهما فرهادي، بحكم موقعه المكرّس في المشهد والمحافل السينمائية، ما قد يجعله في موقع قوّة ربما أكثر صدقيةً للعموم، دعونا نتوقّف عند سؤال أساسي في مقاربة هذه القضية: ماذا تعني سرقة الأفكار في السينما؟ إنّها تهمة غير منطقية إن لم نقل لا معنى لها! السينما تقلّد، تمزّق، تنسخ... لكنّها لا تسرق الأفكار لسبب بسيط هو أن الأفكار في السينما لا قيمة ولا معنى لها. كلّنا يشعر عند مشاهدة فيلم، بأنه يأخذنا إلى ذاكرة ما، أو يحيلنا، كلّ حسب مخزونه المعرفي والثقافي، إلى تلك القصة أو هذه اللوحة أو هذه الفكرة. في الواقع، يستحيل كتابة نص، من دون أخذ شيء من ذاكرتنا المخزّنة جزئياً في عقلنا التي طوّرها الإنسان منذ أن طوّر القدرة على التواصل. تعدّ السينما أحد أكثر أشكال الفن عرضةً للتناص، لأنّ طبيعتها المتعدّدة التخصّصات، توحّد الرواية والمسرح والتصوير والرسم والموسيقى... يشكل التناص بالنسبة للفن السابع، دعامةً يقوم عليها. هذه الدعامة بُنيت في وقت قصير، لكنّها تطورت بسرعة كبيرة نظراً إلى قدرة السينما على احتواء الفنون الأخرى. لم تكن سرقة الأفكار يوماً مصدر قلق كبيراً، لأن الثقافة السينمائية تعتبر ملكية جماعية. لذلك، لا يتم قبول التقليد فقط، لكن حتى سيتم تشجيعه. لم يتحقق المجد على الشاشة الكبيرة بالأفكار أو القصص وحدها، بل بطريقة التعبير عنها من وجهة نظر خاصة بكل مخرج، حتى لو كانت متطابقة. فالأصالة هي نظرة الشخص إلى الأشياء والأفكار وما يصنعه منها.

«بطل» لأصغر فرهادي

«لا شيء أصلياً. اسرق من أي مكان يلهمك أو يغذي خيالك. التهم الأفلام القديمة والجديدة والموسيقى والكتب واللوحات والصور والقصائد والأحلام والمحادثات العشوائية والعمارة والجسور وإشارات الشوارع والأشجار والسحب والمسطحات المائية والنور والظلام. حدّد فقط الأشياء التي تريد سرقتها، والتي تتحدّث مباشرة إلى روحك. إذا قمت بذلك، فسيكون عملك (والسرقة) أصلياً. الأصالة لا تهتم بإخفاء سرقتك. احتفل بها إذا كنت ترغب في ذلك. على أي حال، تذكّر دوماً ما قاله جان لوك غودار: لا يهمّ من أين تأخذ الأشياء، بل إلى أين تأخذها». هذا ما يقوله جيم جارموش. لذلك السينما هي أداة لبناء شيء مختلف. الأصالة إنما تكمن في القدرة على مزج الموضوعات إلى حدّ تحويلها إلى شيء صلب ومتجانس. القدرة على معرفة كيفية استلهام و«سرقة» الأفكار الموجودة من دون فقدان الطريق، وإلى أين نريد أن نأخذها، وتجديد أفكار الماضي والحاضر من خلال تمريرها على أنها شيء جديد. هذا هو الأساس المنطقي والنظري لإعادة إنتاج أفلام تقوم على الأفكار نفسها. الخيال السينمائي إذن ليس سوى غرفة صدى تكرّر القصص نفسها وفقاً للزوايا والمعايير والنظرة الشخصية والمكان والوقت. وهذا ليس إجراماً ولا دليلاً على قلة الإبداع، إنه غرض الفن ومؤشر إلى الثراء السينمائي والثقافي والتاريخي.
قبل سنوات، اتُّهم جان بيار جوني مخرج فيلم «أميلي» (2002)، المخرج غييرمو ديل تورو بالسرقة. وعندما واجه جوني ديل تورو شخصياً بمزاعمه، ذكّره ديل تورو بأن كلاهما مدينان إبداعياً لتيري غيليام، وفيلمه «برازيل» (1985). قال ديل تورو: «لا يمكنك امتلاك زبد البحر، أيها الأحمق». الفردية في السينما تتعلّق فقط بالقدرة على احتواء الفكرة وتقديمها بطريقة إبداعية. يحسب لأزاده مسيح زاده أنها وجدت الفكرة وصنعت منها وثائقياً قصيراً بعنوان All Winners, All Losers ولكن يُحسب أيضاً لفرهادي أنه حوّل هذه القصة الحقيقية إلى فيلم روائي، مستخدماً أسلوبه السينمائي الخاص لتقديم الفكرة بطريقة مؤثرة. وهذا دور المبدع السينمائي الذي يعرف التقاط الأفكار وتقديمها من وجهة نظره الخاصة، وبطريقته. لذلك تعد استعارة الأفكار وإعادة ترتيبها وتقديمها جزءاً أساسياً من السينما. وعلينا دوماً التنبّه أن هناك فرقاً كبيراً بين الفكرة والقصة من جهة وبين السيناريو من جهة أخرى. وهناك الآلاف من الأفلام لمخرجين كبار مستوحاة من أفلام وثائقية.