ارتأت فاطمة الحاج (1953) أن يكون عنوان معرضها «نزهات مشرقيّة» الذي اختُتم قبل أيام في «غاليري مارك هاشم» في باريس. ألهمت أعمالها حدائق ومنتزهات في عدد من المدن التي مرّت بها في المغرب وفرنسا واليمن، فضلاً عن موطنها لبنان. تتّسم لوحاتها بحيويّة الأشكال والضوء والألوان، وبالشخصيات التي تطلّ بقاماتها في زوايا اللوحة، مستمتعةً بالمكان وثرائه الجماليّ. غالباً ما تكون لوحتها مرآةً انعكاسية لحديقتها الخاصة في الرميلة على طريقة كلود مونيه وحديقته في جيڤرني التي حوّلها إلى تيمة رئيسية لعدد من أعماله الخالدة ضمن الخطّ الانطباعي.
من المعرض

ترسم فاطمة الحاج «حديقتها الداخلية» المفعمة بالسكينة والجمال، وفيها امرأة متأرجحة بين القراءة، والتأمل، أو رجل وامرأة (زوجان؟) مفتتنان بالموسيقى، أو مجموعة صغيرة من الأشخاص. لا يخفى على الناظر إلى لوحاتها تأثّرها بأعمال إدوار فويّار وهنري ماتيس وبيار برنار، وصولاً إلى الكبير من عندنا شفيق عبود. الضوء والأشكال والألوان في الأماكن التي استوقفتها إيحاءاتها وجمالياتها، رسّخت في ذاكرتها البصريّة والشعوريّة انطباعاً قوّياً حوّلته بواقعية متّشحة بالتجريديّة، إنّما خاصّة بالانطباعية. بيد أنّ الواقعيّ لديها ذاتيّ بامتياز، والذاتيّة عماد الانطباعية والتجريديّة كلتيهما. تتميّز علاقتها بالمنظر بنوع من التوازن بين الانطباع العاطفي والنزعة اللونية الزخرفية، مبقيةً في نصّها التشكيلي شبه التجريديّ على ملامح طبيعيّة واقعيّة. التجريد الجزئيّ لا يحجب المنظر الطبيعي الماثل بوضوح وإن غلّفه الضباب. فالمنظر الطبيعي تسخو عليه فاطمة بالألوان الحارّة، ربما الثرثارة أحياناً، بتنويعات مختلفة، وصولاً إلى شخصية ‏أليسار التاريخية التي آثرت بناء حضارة جديدة في قرطاج عوض الغرق في حرب صور المدمّرة. وهنالك أيضاً المزيد من الشخصيات التاريخية في لوحاتها مثل الجزري وابن سينا ونظامي... رموز علم وثقافة وتاريخ، تحية حضاريّة عبر لوحاتها إلى العالم، من بيروت المتروكة لأحزانها وآلامها، رغم أنّ فاطمة تؤمن بأنّها منذورة دوماً للحياة لا للموت مهما تتالت عليها المصائب والنكبات. ها هي أليسار تؤوب إلى مدينة الأزل والأبد عقب انفجار الرابع من آب... إلى عالم المكتبات، إذ تقول: «رسمت مكتبة المدينة كي أعبّر عن حبّي للكتاب الذي هجره الجيل الجديد لمصلحة الإنترنت».
تأثّرت اللوحات بأعمال إدوار فويّار وهنري ماتيس وبيار برنار، وصولاً إلى شفيق عبود

تجول من ثمّ في الأساطير، كأسطورة أوروبا التي اختطفها الإله زوس الذي حوّل نفسه إلى ثور، على ما تروي الأسطورة، فراح شقيق أوروبا قدموس يبحث عن شقيقته، ملقّناً الإغريق أبجديته الفينيقية في رحلة بحثه... وهنا قصائد الشاعر نظامي الذي يمثل ثقافة الهند والمغرب في لوحتها «القصر الأبيض». وفي وجوه النساء لدى فاطمة الحاج، فرح وغضب، براءة وعفويّة، وضياع مستمرّ.
تطغى في أيّ حال الحدائق والنزهات على معرض الفنانة اللبنانية التي اختارت جدران الغاليري الباريسية مكاناً لعرضها. تختزل لوحاتها رحلة في الشرق والغرب حيث نصادف قلاعاً وحدائق تزهو بالألوان الحارّة المبهجة، والأسطورة التي تعيد وهجاً وألقاً لراهن مدينتنا التي تحاصرها نيران المآسي والحروب. اللون يحاول أن يطمس السواد، ويجهد الضوء في إنارة العتمة.