القاهرة - بينما كان مئات الآلاف من المواطنين المصريين يحتشدون في احتجاجات واسعة واعتصام يغلق ميدان التحرير منذ 25 كانون الثاني (يناير) 2011 حتى 11 شباط (فبراير) 2011، كان المشهد على شاشات التلفزيون الرسمي يرصد كادراً ضيقاً يضم جزءاً خالياً من كوبري قصر النيل لا يمر منه كائن حي في محاولة ساذجة لنقل صورة تجافي الواقع الذي لم يكن سوى أن الوطن يشهد ثورة شعبية ضد نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وحكومته.
وبينما يتأهّب اللواء عمر سليمان لإلقاء بيان تخلّي مبارك عن منصبه بعد استمرار الاحتجاج ووضوح الرؤية بانحياز المؤسسة العسكرية لمطلب إقصاء مبارك، كانت القنوات نفسها تذيع الأغنيات الوطنية وصور شهداء «ثورة 25 يناير» بعدما قررت بشكل مفاجئ أن تدير كاميرات التصوير قليلاً نحو اليسار كي ترصد ميدان التحرير بدلاً من كوبري قصر النيل الخالي.
لم يكن ما سبق إلا مقدمة فقط لما ظهر بشكل واضح من ضرورة تحرير المؤسسة الإعلامية الرسمية من قبضة الحاكم وحكومته حتى وإن كان الحاكم هو الثورة وحكومته هي الثوّار. الإعلام الرسمي الذي يديره سياسي بدرجة رئيس دولة في الحقيقة، هو من يدير رئيس الدولة ويحوّله تدريجياً إلى مرآة نفسه أمام نفسه، المرآة التي تبديه أنيقاً لا يشوبه عيب، ماهراً لا يعيبه تقصير. لطالما قام الإعلام المنحاز بعزل مسؤول عن مسؤوليّته، وحاكم عن شعبه بينما يغلي الشارع ضده ليخرج المشهد مرتين متتاليتين مرة بحسني مبارك يشهد بأن الغالبية الكاسحة معه، ومرة بمحمد مرسي يشهد بأن الشعب قام باختياره ولم يسحب المسؤولية من بين يديه. كأن كل ما كان يحدث هو مجرد كابوس يعاني منه الحاكم الذي لم يعد يرى نفسه إلا من خلال آلته الإعلامية التي ربما لا يراها أحدٌ سواه.
وبينما يلقى القبض على وزير الإعلام الأسبق أنس الفقي بعد نجاح الموجة الأولى من الثورة، كانت الصيحة العالية التي تطالب بأن يكون الفقي هو آخر وزير للإعلام في تاريخ مصر. ذلك المطلب الذي كان يتوسط مطالب الثورة بإلغاء وزارة الإعلام وإطلاق رقبة المؤسسة الإعلامية من قبضة الحاكم. دعوات شددت على أن يتولى إدارة المؤسسة مجلس أعلى للإعلام، تخرج قراراته بمشاورة أعضاء المجلس ورئيسه، وأن يكون المجلس هو سلطة مستقلة لا يحكمها وزير ولا رئيس وزراء ولا رئيس جمهورية. لكن لم تسر الحال كما تمناها الجميع، وعادت وزارة الإعلام مجدداً ليتولاها أسامة هيكل بعدما بدأ اللواء طارق المهدي قبله بالتمهيد لإلغاء الوزارة، ليصبح الأول وزيراً للإعلام، والأخير محافظاً لمحافظة الوادي الجديد.
هل يستطيع عصام الأمير تطهير «ماسبيرو» وتأمين استقلاله عن الحاكم؟
جاء هيكل إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في «ماسبيرو»، ليتولى منصبه ويشارك في أكبر عملية حشد طائفي ربما هي الأولى من نوعها. إذ أطلق تعليماته لمذيعي ومذيعات «ماسبيرو» بترويج شائعة قيام مسيرة الأقباط بالاعتداء على قوات الشرطة العسكرية أمام المبنى. ذلك العار الذي سيظل يلاحق اسم أسامة هيكل ويقترن به بالإضافة إلى اسم المذيعة رشا مجدي التي حرّضت باللفظ على أن يشارك الشعب في تصفية المسيرة، الأمر الذي واجهه الشعب بالامتناع وعدم الاستجابة في رد فعل أكثر تحضراً مما ظن الجميع. هكذا، تعرّت الآلة الإعلامية مغردة خارج السرب ومطالبة بما لم يجد الشعب فيه فطرته من اقتتال طائفي.
بعد أقل من عام على مجيء الرئيس المعزول محمد مرسي في منصبه ليشكل حكومته برئاسة هشام قنديل، تسلّم وزارة الإعلام صلاح عبد المقصود، ذلك الشخص الذي اشتهر بمواقفه المقترنة بالتحرش اللفظي بالإعلاميّات على رأسها الجملة المعروفة «تعالي وأنا أقول لك فين». عبارة رد بها على الإعلامية التي سألته خلال مؤتمر صحافي «فين حرية الإعلام؟» في إشارة مخلّة بالأدب لا تليق سوى بزعيم عصابة. هذا بالإضافة إلى ضلوعه في ما يسمى بأخونة الإعلام واستغلال الآلة الإعلامية في التحريض على معارضي نظام حكم جماعة الإخوان ومحمد مرسي.
وهنا ظهر مرّة أخرى المطلب القديم بإلغاء منصب وزير الإعلام وتحقيق استقلال حقيقي للمؤسسة الإعلامية الرسمية لتصبح «مؤسسة أهلية» يديرها مجلس أعلى مستقل لا يتبع شخص بعينه.
وبعد قيام الموجة الثورية «30 يونيو» ضد حكم الإخوان وعزل محمد مرسي وإلقاء القبض على عبد المقصود، توقّع الجميع أن تقوم الحكومة الانتقالية الأولى برئاسة حازم الببلاوي بتلبية ذلك المطلب. لكن كالعادة، لم يحدث هذا الأمر بل قامت الحكومة بتطبيق «حلّ وسط» قد يرضي أطرافاً عدة وهو تعيين دريّة شرف الدين في منصب وزيرة الإعلام. إنّها الوجه الذي اقترن أمام جيل شباب الثورة ببرنامجها الشهير «نادي السينما» الذي كان مصدراً رئيساً خلال التسعينيات لنقل الأفلام الأجنبية وتحليلها ونقدها بواسطة متخصصين على التلفزيون الرسمي المجّاني.
وبعد فوز عبد الفتاح السيسي برئاسة الجمهورية ومطالبته للمهندس إبراهيم محلب بإعادة تشكيل الحكومة، جاء القرار بإلغاء وزارة الإعلام (17/6/2014) وتشكيل مجلس أعلى للإعلام ليأتي المخرج التلفزيوني عصام الأمير الذي شغل منصب رئيس التلفزيون المصري منذ تموز (يوليو) 2013، على رأس الترشيحات وأقواها لشغل منصب رئيس «المجلس الوطني للإعلام».
الجدير بالذِكر أن عصام الأمير كان له تصريح ملفت حين كان السيسي ما زال مرشحاً للرئاسة. فقد اجتمع وقتذاك السيسي بالعاملين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري (ماسبيرو)، وقال عبارة «إن التلفزيون المصري يعاني من مشكلة اقتصادية في المقام الأول بسبب العمالة الزائدة والأجور الضخمة المبالغ فيها».
حينها، جاء رد الأمير منتقداً ومعرباً عن أسفه الشديد لذلك التصريح الذي أغفل «مدى عراقة وقوة اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري ومكانته الكبيرة» وفق الأمير. ووصف وقتها المشير السيسي بأنه يرى في تجربة الإعلام الفضائي تجربة مهنية حقيقية ومُنجزة، مشيراً إلى أنّ من قاموا بإدارة ودراسة وتقديم التجربة الإعلامية للقنوات الفضائية هم أصلاً كوادر «ماسبيرو» الذين عملوا وتعلّموا في هذه المؤسسة.
والسؤال هنا : هل عصام الأمير كمرشح لأول مجلس وطني للإعلام يستطيع إنجاز المهمّة التي نختصرها لفظاً في «استقلال وتطهير المؤسسة الإعلامية الرسمية»؟ وهل سيؤثر هذا الخلاف وتضارب التصريحات في اختياره؟ والأهم هو السؤال عن مدى جدّية التجربة واستهدافها فعلاً لاستقلال وتطهير المنظومة الإعلامية لتصبح منظومة أهليّة بدلاً من كونها إعلام الدولة الرسمي والناطق بوجهة نظر واحدة، مع الأخذ في الاعتبار علاقة الإعلام الرسمي بالقطاع الخاص خلال المرحلة المقبلة، ما يثير تساؤلاً عن إمكانية دخول رؤوس الأموال على الساحة بشكل أو بآخر.